قال السَّيدُ المسيح: أنتم تدعونني معلماً وحسناً تقولون (يوحنا 13: 13). لقَّبه الكثيرون بالمعلم سواءً أكانوا من المؤيدين لرسالته أو من معارضيه. في إحدى المرات اعترضَ عليه الفريسيون وسألوا تلاميذه قائلين: لماذا يأكل معلَّمُكم مع العشارين والخطاة؟ (متى 9: 11). وقال له قومٌ من الكتبة والفريسيين: يا معلم، نريد أن نرى منك آية (متى 12: 38). وسأل جامعوا الضرائب بطرسَ قائلين: أما يُوفي معلمكم الدرهمين؟ (متى 17: 24). دعاه الرسول نثنائيل قائلاً: يا معلم أنت ابن الله أنت ملك إسرائيل (يوحنا 1: 49). ودعاه باقي الرسل بالمعلم (يوحنا 4: 31). وقالت مريم لمرثا اختها في جنازة أخيها لعازر: المعلم قد حضر (يوحنا 11: 28). ودعاه القائد اليهودي نيقوديموس قائلا: يا معلم، نعلم أنك قد أتيت من الله معلماً (يوحنا 3: 2).
دُعي السَّيدُ المسيحُ بالمعلم في ظروفٍ متباينةٍ وأوقاتٍ مختلفةٍ. فهو المعلمُ في الصف عندما يتحاور ويتجادل ويعلم عن ملكوت الله لكنَّه أيضاً المعلم عندما يواجه التلاميذ عاصفةً وعندما يحيطُ الخطر بهم. قالوا له: يا معلم، أما يهمك أننا نهلك؟ (مر 4: 38). وفي وسط اليأس عندما ماتت ابنة رئيس المجمع قالوا: لماذا تتعب المعلم؟ (مر 5: 35). وعندما تعب التلاميذ دون نتائج، كان مصغيا لقولهم: يا معلّم تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئا، ولكن على كلمتك ألقي الشبكة (لوقا 5: 5). وطلب منه عشرة رجال برص قائلين: يا معلم ارحمنا (لوقا 17: 13). وفي وسط العنف والمظاهرة، قالوا له، يا معلم، هذه المرأة أمسكت وهي تزني (يوحنا 8: 4).
هو المعلم في نظر الكثيرين وفي الصف وخارجه وفي أوقات الراحة وأوقات التعب. هو المعلم الذي يتكلم بالاستقامة ولا يحابي بالوجوه. وهو المعلم الذي أثّرت رسالته على الملايين وانتشرت عبر الأجيال. فكيف نتعلم من الذي قال: تعلموا مني. وكيف نصبح معلمين مؤثرين ومعلمات مؤثرات. سأتحدث عن بعض المبادئ التي تركها لنا المعلم الأعظم لترشدنا في أن نكون معلمين مؤثرين.
أولا، علم المسيح بالمواجدة. والمواجدة هي من الوجدان. لقد شجع المسيحُ التواصلَ العاطفي. فعندما ذهب إلى جنازة لعازر كانت مشاعر الطلبة متوترة جداً. كان الدرس صعباً. كان التلاميذ يلومون المعلم قائلين: لو كنت ههنا لم يحصل ما حصل. كان الطلبة يبكون ويلومون ولا يتوقعون الحل القريب. يؤكد النَّص المقدس اهتمام يسوع بالتواصل العاطفي قبل تقديم الحلول. فلقد انزعج بالروح واضطرب واعترف الكثيرون قائلين: انظروا كيف كان يحبه. أحب المسيح لعازر. ومن أغرب الآيات أن الله المتأنس صار يبكي في مدرسة الحب. فالتواصل العاطفي ضروري للقضاء على اليأس ولتشجيع نفوس الطلبة ولزرع الإيمان ولمواجهة الحالات الصعبة.
ثانياً، علم المسيح بالعطف وباللطف. جلبوا له امرأة زانية أُمسكت في ذات الفعل. هي مذنبة. هي تستحق العقاب. هي مرفوضة من كل شخص حولها. لكن المعلم قرر أن يقف معها لا أن يقف ضدها. قرر أن يرشدها إلى درب النجاح لا أن يلومها على فشلها. وتحدى الجميع من أجل شخص لا يستحق هذه المخاطرة. المحبة لا تخاطر براحتها من أجل من يستحقون فحسب بل تخاطر بسبب دعوة الله لنا كمعلمين نسلك درب المحبة لا درب الدينونة.
ثالثاً، علم المسيح باحترام التعددية وتنوع الثقافات. جاء المسيح إلى السامرية التي تنتمي لديانة أخرى وتتبنى ثقافة مختلفة. احترم المرأة في عالم يهين النساء. أعطاها الفرصة في عالم يضع الآخرين في علبة من الحديد ولا يؤمنون بالتغيير. وفي حوار ثقافي متميز كشف المسيح إمكانيات جديدة لفهم هوية الله والمكان المقدس. فالله روح ولا يهم إن كانت عبادته في أورشليم أم في السامرة. الحواجز الدينية والثقافية تلاشت في ضوء طبيعة الله محب البشر. فالمحبة لا تنحصر بعلبة ثقافية بل تجتاز الحدود لتصل إلى كل دين وكل ثقافة وكل طالب وطالبة. تأثرت الطالبة السامرية بأستاذ يهودي. وتغيّرت حياتها.
رابعاً، علم المسيح عن طريق بناء العلاقات. لم يتحدث المسيح عن كتب الفلاسفة والعباقرة والكهنة الأفذاذ. لم يكتب كتباً ومقالات أكاديمية متخصصة رغم أهميتها. سًكب جلَّ اهتمامه في بناء علاقات تكون الإطار والبيئة التعلمية. إنها علاقات محبة صادقة. إن أفضل ما يفعله الأستاذ والمعلمة هو بناء علاقة شخصية مع الطلبة ومع كل طالب على انفراد. فبطرس يختلف عن توما. ومريم المجدلية تختلف عن السامرية. ويبني المسيح العلاقات بالحديث مع الناس وباستخدام الوقت لشرح الأمور بشكل فردي وبالإصغاء للآخرين وبتحويل كل إنسان إلى بطل في ملكوت الله.
خامساً، علَّم المسيح بواسطة تطوير مهارات صنع السلام والمصالحة. طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء وبنات الله يُدعون. من المهم أن نبني مجتمعا نتعلم فيه من البيئة التعلمية ومن بعضنا بعضا. فليس التعلم هو من الأستاذة فحسب بل يشمل الكتب والأدوات المختلفة لكنه بدون شك يشمل كل الطلبة. فتطوير علاقات مصالحة وسلام بين الطلبة هو في جوهر عملية التعلم. لقد أكّد المسيح أهمية العلاقات الصحيحة بين تلاميذه وشدَّد على عدم التعالي. أكَّد المساواة والخدمة والتنازل في سبيل رفع الآخر. لم يضع بيئة تنافسية تحقّر الآخر بل قدم مثل الفريسي والعشار ليؤكد أن التعالي مرفوض. لم تكن مشكلة الفريسي في إنجازه الأكاديمي فهو يقوم بالمهام بطريقة ممتازة لكن القلب المتكبر عائقا كبيرا في مدرسة المحبة. وتشمل مهارات صنع السلام الاستعداد للغفران والمسامحة إعطاء الآخر فرصة جديدة. وتشمل مهارات صنع السلام التعامل مع المشاكل والتحديات بطريقة ناضجة فكريا وعاطفيا تشمل تحديد المشكلة والتخطيط ووضع الحلول العملية والآليات السليمة التي تعكس قيماً فيها مسؤولية واحترام وتقدير لكل إنسان.
سادساً، علم المسيح بالصلاة. إن الصلاة أداة ضرورية لتنقية القلب والدوافع. فالمعلم الذي يصلي من أجل تلاميذه كما فعل المسيح سيكون شريكاً مع الله في التفكير والتخطيط والتنفيذ. وسيختبر قوة إلهية في المهام اليومية. الصلاة تصنع المعجزات في مدرسة المحبة.
نعم، علم السيد المسيح بالمحبة قبل التعليم بالعلم والمعلومات. وبدلا من التركيز على عبقرية الإنجاز الفكري والقدرات الذهنية المتميزة سعى السيد المسيح إلى بناء علاقات صحية مع الله ومع الآخرين في سبيل تدريب الإنسان بل بهدف خلق إنسانية جديدة ومجتمعا يُرضي الله ويحب الإنسان.
دعونا ندخل إلى أحد الصفوف ونشاهد الدرس معاً. لنتخيل الموقف في يوحنا 13 عندما غسل السيد المسيح أرجل تلاميذه والدروس التي كانت في تلك السنة. يقول الكتاب المقدس: إذ كان قد أحبَّ خاصته الذين في العالم احبَّهم إلى المنتهى. إن تلاميذ السيد المسيح هم عائلته، هم أولاده وبناته، هم أهل بيته. هم خاصته. إن المحبة هي أفضل بيئة تعلمية. فالمحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تقبّح ولا تبرز مساوئ الآخرين بل تسعى لشفاء أمراض النفس والروح وتسعى إلى مساندة كل متعلم. المحبة تصبر على الطلبة والتلاميذ. المحبة تصمد أمام فشل المتعلمين.
لقد فشل بطرس في فهم الدرس. بدأ المسيح بغسل الأرجل وعندما جاء إلى بطرس رفض بطرس أن يقوم المسيح بغسل أرجله. أجاب يسوع وقال له: لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع ولكنك ستفهم فيما بعد. أصر بطرس على رفض الدرس. كان عنيداً. كان مصمما على طريق عدم الفهم أو سوء الفهم. فاضطر المعلم أن يظهر أن المحبة لا تخدم فحسب بل تتحدى أيضا وتؤدب. المحبة مدرسة من التربية دافعها مصلحة المتعلم مهما تعددت الوسائل.
ولم يفشل بطرس في فهم الدرس فحسب بل فشل في القيم السلوكية والأخلاقية. فخان معلمه. لم يعاقب المعلم تلميذه الفاشل بل قدم له العلاج. وأظهر له العطف والغفران والتضحية. وسأله ثلاث مرات: أتحبني؟ إن محبة المعلم هي الطريق لتقويم السلوك وهي المنهاج الذي يقود إلى النجاح وإلى الأمانة في العمل. ولقد قدم السيد المسيح المحبة كأفضل طريق للتعلم. وكان هو نموذجاً كاملا للمحبة الشاملة.
جميعنا سمعنا عن لغات الحب الخمسة: تشجيع، قضاء وقت، إعطاء هدايا، التواصل الجسماني، وأعمال خدمة. لقد قدمت محبة المسيح الحب بكل أشكاله. ففي التشجيع، قضى الساعات مع تلاميذه يشددهم ويحثهم ألا يقلقوا بالأكل والشرب والطعام بل ينظروا إلى طيور السماء وإلى زنابق الحقل. في قضاء الوقت، قضى معهم الساعات يتجول بين المدن ويأكل ويشرب معهم. وفي التواصل الجسماني، لمس الأبرص وأحس بقوة تخرج منه عندما لمسته نازفة الدم. وفي أعمال الخدمة، أطعم الجموع وغسل الأرجل. وفي إعطاء الهدايا قدم الخلاص وقدم نفسه على الصليب. لقد أحب إلى المنتهى ورأينا فيه المحبة المتجسدة. وكانت قمة المحبة بموته على الصليب من أجل تلاميذ فاشلين في أمانتهم، وفي صداقتهم، وفي شجاعتهم، وفي تعاملهم مع الصعوبات. لم يستحقوا المحبة لكن المعلم أحب فضلاً، أحب مجانا، أحب دون شروط وقيود وتوقعات عظيمة. أحب لأنه محبة.
إن محبة المعلم تحفز الطلبة وتشجعهم على النجاح. إن محبة المعلم تخلق بيئة صحية لمحبة مادة التعليم. إن محبة المعلم تمهد الطريق للنجاح ولاكتشاف فرادة كل طالب وطالبة. إن محبة المعلم تصنع المعجزات وتؤكد للطلبة أن حاجاتهم ورغباتهم وتحدياتهم مهمة وستُأخذ بعين الاعتبار. إن محبة المعلم تنقل التعلم إلى مستوى آخر وتجعله ضمن منظومة أخلاقية تحرر الإنسان من الخوف والقلق والرفض والحسد.
أخيراً، مع بداية السنة الدراسية، نهنئ كل المعلمين والمعلمات فكل عام وأنتم بألف خير. وندعو الجميع إلى التفكير بمنهاج التعلم الذي قدمه السيد المسيح. إنه منهاج وبيداغوجية المحبة. فلكي نكون معلمين صالحين يجب أن نكون تلاميذ عند محب المبشر المعلم الأعظم الذي علم بالحب. فلنبدأ بمحبة كل تلميذ ونضع خطط الحب المتنوعة ضمن منهاج التعلم.