في موسم الميلاد هذا تحمل قلوبنا ثقل الحزن والرجاء اللذين يرن صداهما مع الصراخ القادم من أرض مزّقتها الحرب، حيث يسود فيها الأسى والغضب والكراهية. وبينما نُفجع بخسارة كلّ الأرواح البريئة من كلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيليّ، لا سيّما الأطفال والنساء، نجد أنفسنا نغوص في مشهد يُبعث إلى ذاكرتنا من الكتاب المقدّس عندما وُلد المسيح: زمن ساد فيه الظلام، المعاناة، الظلم والوحشيّة.
صدى اليأس والكآبة يرنّ عاليًا تمامًا مثل الآية الكتابيّة التي تقول "«صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ". (متّى 2: 18) لكنّنا وسط هذا القنوط نتذكّر ذلك الوعد العميق الجذور أنّ ميلاد المسيح المخلّص جلب معه وعدًا آخر بمستقبل أعظم إشراقًا.
ظهر يسوع المسيح كرئيس السلام في عالم ممزّق بالاضطرابات والانقسام، محطّمًا الأسوار التي تفصل بيننا مقدّمًا الفداء والخلاص، والضمان بأنّنا لسنا وحدنا بعد الآن، لأنّ "عمّانوئيل" يعني "الله معنا" (متّى 1: 23)
في هذا الميلاد، وبينما نعبر في هذا الحزن المُفجع، نتمسّك بعطيّتين سماويّتين: حضور الله وعطيّة الرجاء.
يسوع المسيح الذي جاء ليكون حاضرًا معنا، يسير مع المضطهَدين، المُهمَّشين، المرضى، الأطفال والمنبوذين. وفي وادي ظلّ الموت يكون شفاؤه وحضوره المعزّي للمتألّمين مصدر رجاء يفوق كلّ خيبة أمل أو إحباط. ووسط الألم والفقدان نتمسّك بالوعد بأنّ هذا الدمار الآنيّ ليس هو نهاية القصّة، فالله يتابع كتابة الفصل القادم، وهؤلاء الواثقون به يؤمنون بأن صلاحه يضمن ليس فقط وجوده معنا وسط آلامنا، لكن بأنّه سيأتي بالعدل أيضًا ويصحّح كلّ الأخطاء.
في هذا الميلاد بينما تحزن أعماقنا، نواجه مخاوفنا ونتقبّل خسائرنا نعلم أنّنا لسنا بلا رجاء. عطية الرجاء تنظر قدمًا إلى ما أبعد من ضيقنا وعنائنا، وتثق بسيادة الله الكاملة فوق كلّ المآسي والظلم. وبالرغم من الألم، يبقى إيماننا ثابتًا بأنّ النور سيولد مجدّدًا من رحم الظلام. من خلالنا سيهدم المسيح الأسوار التي تفصل بيننا، مقاومين الشر بالخير والبغض بالمحبّة، مُعدّين الطريق لمستقبل أكثر إشراقًا حيث يعيش الإسرائيليّون والفلسطينيّون بسلام جنبًا إلى جنب.
ترنيمة "ليلة الميلاد" التي تهزّ القلوب والتي يرنّمها الأطفال كلّ موسم ميلاد، تصبح كلماتها خلفيّة متناغمة متناسقة مع كلام هذا التأمّل. وتأتي الأبيات كلحن نبويّ تعلن قوّة الميلاد المغيّرة:
ليلة الميلاد يُمّحى البغض
ليلة الميلاد تُزهر الأرض
ليلة الميلاد تُدفن الحرب
ليلة الميلاد ينبت الحبُّ
بينما نقبل في أعماقنا رسالة "ليلة الميلاد" ونحتضنها، ربّما تقوم هي بمهمّة التذكير بأنّ الميلاد يحمل دعوة عالميّة شاملة للعمل والفعل:
عندما نسقي عطشانَ كأسَ ماء... نكونُ في الميلاد
عندما نكسي عريانَ ثوبَ حبّ... نكون في الميلاد
عندما نكفكفُ الدموعَ في العيون... نكونُ في الميلاد
عندما نفرشُ القلوبَ بالرجاء... نكونُ في الميلاد
عندما أقبِّلُ رفيقي دون غِشّ ... أكونُ في الميلاد
عندما تموتُ فيَّ روحُ الانتقام ... أكونُ في الميلاد
عندما يُرَمّدُ في قلبي الجفاء ... أكونُ في الميلاد
عندما تذوبُ نفسي في كيانِ الله ... أكونُ في الميلاد
(الأب منصور لبكي)
تعكس كلمات الترنيمة قوّة المحبّة المُغيِّرة وتحثّنا على الامتداد والاتّساع في الرحمة واللطف والسعي لوقف المعاناة ونشر السلام والرجاء، ليس فقط بين أنفسنا وداخل دوائرنا، بل إلى أراضٍ وأماكن مزّقتها النزاعات والحروب تتوق أن تنعم بالسلام. لعلّ جهودنا الجماعيّة في وسط الظلمة تستطيع أن تكون نورًا يقود إلى مستقبل أفضل.
بوحي روح الميلاد دعونا لا ننسى مسؤوليّتنا كمجتمع عامّ وشامل، عسى أن تكون كلمات الترنيمة التي تتكلّم عن ولادة المحبّة في ليلة الميلاد، ملهمة للمجتمع الدولي بضرورة التداخل ومدّ الأيادي لوضع نهاية للحرب بين إسرائيل وغزّة، وتعزيز حلّ السلام الدائم. فالميلاد يذكّرنا بأنّ المحبّة المولودة من وسط البغض قادرة على تخطّي الحواجز وشفاء الجراح والفداء.
ليتنا نصبح منارة تحمل الرجاء وآلات تعزف ألحان محبّة الله، ليس فقط داخل محيطنا القريب، إنّما في المنصّات العالميّة. وبينما نحتفل بميلاد المسيح، دعونا نجسّد بشكل فعليّ رسالة الميلاد الحقيقيّة، الرسالة التي تنادي بالرحمة، التواضع، العدل والسلام.
علّنا جميعًا نتذكّر أن قصّة "الله معنا" هي ليست فقط عن المسيح الذي يهدم حاجز العداوة بين البشريّة والله، لكنّها أيضًا دعوة لنا لكي نعمل معه في هدم الحواجز التي تفصلنا أحدنا عن الآخر.
وخلال موسم الميلاد وما بعده أيضًا لنكن حاملين لحضور الله، متمسكين بالرجاء وساعين للسلام والعدل في كلّ مكان نذهب إليه، مُحضرين معنا الراحة والشفاء للأماكن، للظروف وللنفوس التي نتلامس معها.