ليست حاجتُنا إلى سنةٍ جديدةٍ بل إلى عالمٍ جديدٍ. "ولا يوجدَ سنةٌ أجملُ من سنةٍ بل نحنُ من نصبح أجملَ أو أقبحَ". فهل يحتاجُ المريضُ إلى سنةٍ أخرى منَ المرضِ؟ وهل يحتاجُ المتألمُ إلى سنةٍ أخرى من الألمِ؟ وهل يحتاجُ المنكوبُ إلى وقتٍ إضافيٍّ تهطلُ فيه النكباتُ؟ هل حاجتُنا إلى المزيدِ من وقتِ الحربِ والقتلِ والتشردِ والصواريخَ والتجويعِ ونزعِ الإنسانيةِ؟ هل زيادةُ الوقتِ ستجعلُ البشرَ أكثرَ حباً وأقلَّ وحشيةً؟ هل إضافةُ سنةٍ أُخرى إلى سنينِ حياتِنا ستجعلنا أقربَ إلى اللهِ أم إلى الشيطانِ؟ هل السرُ كامنٌ في قلبِ صفحات الزمن أم في إنسانيةٍ جديدةٍ مفعمةٍ بمحبةِ الله؟     نحنُ لا نحتاج إلى سنةٍ جديدةٍ بل إلى عالمٍ جديدٍ. نحتاجُ إلى قلوبٍ جديدةٍ وإلى بشريةٍ جديدةٍ. لقد صار عالمُنا عالمَ النكبات، عالمَ قتلِ الأطفالِ وخطفِ المدنيين، عالمَ العنفِ والجريمةِ. وحدَّث ولا حرج. حاولَ الكثيرون خلقَ عالمٍ جديدٍ. حاولَ المسلمون أن يؤسسوا خلافةً إسلاميةً فغزو البلادَ المختلفةَ وأشهروا السيفَ. ليس السيفُ هو الطريق إلى الحياة. حاولَ المسيحيون الأوربيون خلقَ عالمٍ جديدٍ فسحقوا السكانَ الأصليين في الأمريكيتينِ. ليست البندقيةُ هي الطريق إلى الحياة. وحاولَ اليهودُ أن يبنوا عالماً جديداً وكانت النتيجةُ العنصريةَ. ليست الجدران والحواجز هي الطريق إلى الحياة. ولا تزال الحاجةُ إلى خلقِ عالمٍ جديدٍ فمن سيقومُ بهذه المهمة؟ وكيف نغيّرَ عالَمنا؟ هل ننتظرُ دونَ حراكٍ أم نتحركُ دون الله؟ أم نفعلُ شيئاً آخرَ؟ دعونا نستنيرُ من سفرِ الرؤيا ونستخدمُ آياتِه شموعاً في ظلمةِ هذا العصر. لنذهب معاً إلى رؤيا 21: 1-8. يقول النَّصُ المُقَدَّسُ:

ثمُ رأيتُ سماءً جديدةً وأرضاً جديدةً، لأنَّ السماءَ الأولى والأرضَ الأولى مضتا، والبحرُ لا يوجدُ في ما بعد. (2) وأنا يوحنا رأيتُ المدينةَ المقدسةَ أورشليمَ الجديدةَ نازلةً من السماءِ من عند الله مهيأةً كعروسٍ مزينةٍ لرجلها (3) وسمعتُ صوتا عظيماً من السماءِ قائلاً: هوذا مسكنُ الله مع الناسِ، هو سيسكنُ معهم، وهم يكونون له شعوباً، واللهُ نفسُه يكون معهم إلهاً لهم. (4) وسيمسحُ اللهُ كلَّ دمعةٍ من عيونِهم، والموتُ لا يكونُ في ما بعد، ولا يكونُ حزنٌ ولا صراخٌ ولا وجعٌ في ما بعد، لأنَّ الأمورَ الأولى قد مضت. (5) وقال الجالسُ على العرش: ها أنا أصنعُ كلَّ شيءٍ جديداً. وقال لي: اكتُبْ: فإن هذه الأقوالَ صادقةٌ وأمينةٌ. (6) ثم قالَ لي: قد تمَّ! أنا هو الألفُ والياءُ، البدايةُ والنهايةُ. أنا أعطي العطشانَ من ينبوعِ ماءِ الحياةِ مجاناً. (7) من يغلبُ يرثُ كلَّ شيءٍ، وأكونُ له إلهاً وهو يكونُ لي ابناً. (8) وأما الخائفونَ وغيرُ المؤمنينَ والرجسونَ والقاتلونَ والزناةُ والسحرةُ وعبدةُ الأوثانِ وجميعُ الكذبةِ، فنصيبُهم في البحيرةِ المتقدةِ بنارٍ وكبريتٍ، الذي هو الموتُ الثاني.

     نستطيعُ تقسيمَ النصِ إلى ثلاثِ محطاتٍ، وهي: الرؤيا النبوية (آ 1-2)، الرسالة السماوية (آ 3-4)، والتأكيدات الإلهية (آ 5-8). أولاً، يحدثُنا يوحنا عن رؤيا نبويةٍ. سئمَ الرسولُ من العالمِ الأوَّلِ. فهو عالمٌ موبوءٌ. عانى هذا العالمُ من الختومِ والأبواقِ والجاماتِ. وظهرَ فيه التنينُ والوحشُ والنبيُّ الكذَّابُ. سيطرَ الشيطانُ على الوحشِ الذي يُجسِّدُ السلطةَ السياسيةَ وسيطرَ على النبي الكذابِ الذي يجسّدُ السلطةَ الدينيةَ والأديانَ المضلّلةَ. وانتشرَ الشرُ في كلِّ الشعوبِ فجلست بابلُ سيدةً على مياهٍ كثيرةٍ وشعوبٍ عديدةٍ. تدخلَ الخالقُ ليدينَ الشرَّ وينشرَ العدلَ والإنصافَ. فقهرَ التنينَ وأدانَ الوحشَ والنبيَّ الكذَّابَ وطرحهما في بحيرةِ النارِ والكبريتِ. وانهار العالمُ القديمُ وفُتحَ البابُ لقدومِ عالمٍ جديدٍ. وفي هذا السياق حصلَ قائدُنا المسيحيُّ الرسولُ يوحنا على رؤيا لعالمٍ جديدٍ. ونحتاج اليومَ إلى رؤيا لعالمٍ جديدٍ. كان هذا حُلمُ إشعياءَ النبيّ الذي اشتهى انتهاءَ الحروبِ. وكان العالمُ الجديدُ حُلمَ بني قورحَ الذين اشتهوا انتهاءَ العداوةِ مع الأممِ. وهو أيضاً حُلمُ الرسولِ يوحنا الذي أرادَ عالماً جديداً. تجرأتُ أنا لأحلمَ معهم بعالمٍ جديدٍ فقلتُ:

أحلمُ بشرقِ أوسطٍ أفطرُ فيه في القُدسِ وأتغدَّى فيه فـي بيـروتَ وأتعشـى فـي سوريا. أركبُ السِّيارةَ وأسوقُها إلـى العراقِ والـخليجِ وأدخلُ بها مصرَ. أحلمُ بشرقِ أوسطٍ يختارُ فيه الإنسانُ دينَهُ دونَ خوفٍ أو عِقابٍ. أحلمُ بشرقِ أوسطٍ تختفي منهُ العُنصريةُ والتَّطرفُ والكراهيةُ. أحلمُ بشرقِ أوسطٍ يتساوى فيه كلُّ البشرِ، ويتساوى فيه لابسُ الكوفيةِ مَعَ لابسةِ الحجابِ. أحلمُ بشرقِ أوسطٍ خالٍ من الفقرِ والكراهيةِ والحروبِ العسكريةِ وقتلِ الإنسانيةِ. أحلمُ بشرقِ أوسطٍ بدونِ أسلـحةٍ وأزماتِ سيـرٍ وَتَـــلَوُّثٍ فـي البيئةِ وتمييـزٍ ومحاباةٍ بسببِ الجنسِ أو الدِّينِ أو العُمرِ أو الوزنِ. أحلمُ بطفولةٍ بلا حروب وببلادٍ بلا صواريخَ وبلا جيوش. أحلمُ بإعلامٍ وصحافةٍ بلا كذب وبقادةٍ بلا فسادٍ وبشعبٍ يقرأ. أحلم بالعدلِ دون تمييزٍ ظالمٍ. فيعيش اليهوديُّ ويترك العربيَّ أن يعيش. ويعيشُ العربيُّ ويترك اليهوديَّ أن يعيش. أحلم بنظافة الشوارع من المسبات والمخالفات. أحلم بوطن يحتضن المحبةَ وكلَّ مواطنيه دون عنصرية. أحلم ببلديةٍ تقوم بواجبها وبأطفالٍ يفرحون في الدراسة ويحبونها. أحلمُ بغزة مليئة بالسلام وبالكنائس وببلاد مليئة باللطف وخالية من القساوة. أحلم بانتهاء المجازر والمذابح وبحلول السلام. وأحلم بكنائس ممتلئةً من يهودٍ ومسلمين آمنوا بالمسيح. أحلم بانتهاء الشر بكل أصنافه.

نعم أحلمُ بعالمٍ لا يوجدُ فيه البحرُ، علامةُ الشر في سفر الرؤيا. لا يوجدُ فيه ظلمٌ سياسيٌّ ولا ظلمٌ دينيٌّ. علاوةً على ذلك، يضيفُ الرسولُ يوحنا أنَّ حلمَهُ يشملُ أورشليمَ الجديدةَ. وهي العروسُ المهيأةُ والمزيَّنةُ لعريسِها، لملكِ الملوكِ. لا أستطيعُ أن أنسى الخامسَ من آبٍ سنةَ 2001 عندما دخلتُ مبنى الكنيسةِ لارتبطَ بزوجتي دينا. دخلتْ العروسُ مزينةً ومهيئةً فأضاءت كلَّ شموعِ قلبي ومنذ ذلك اليومَ وحتى اليومَ فاضَ كأسي ريّا. نعم، لنحلمْ بكنيسةٍ مهيأةٍ تسعى إلى خلق عالمٍ جديدٍ. هي كنيسةٌ قادرةٌ أن تخاطبَ مجتمعَنا المتعصبَ والمتدينَ والمتجذرَ في عقلية العنفِ والجريمةِ. أحلمُ بهذه الكنيسةِ. إنها حبيبةُ الرب. فرغم أن اللهَ سيأتي بعالمٍ جديدٍ وبأورشليمَ جديدةٍ لكنَّه لن يأتيَّ بعروسٍ جديدةٍ. فيا لها من تعزية.

     ثانياً، في ضوءِ رؤيتنا لعالمٍ جديدٍ ولناصرةٍ جديدةٍ ولمجتمعٍ جديد ولكنيسة مهيأة أن تصنع هذا التغيير. يجب أن ننتقل من الرؤيا إلى الاستراتيجية. وتشملُ الاستراتيجيةُ قيماً أبديةً وانتماءً عميقاً لله. فنحنُ شعبُ الله وبلادُنا بلادُ عمانوئيلَ وناصرتُنا ناصرةُ الله ولسنا بحزبِ الله لكنَّنا لا مانعَ أن نكونَ كنيسةَ الله. ويجب أن يعكسَ انتماؤنا للهِ قيمَنا وسلوكَنا. فنتعلمُ كيف نعيش ونجسّد المحبةَ والعدالةَ والسلامَ سياسياً واجتماعياً وكنسياً وشخصياً لا سيما في محضر الله. ويركّز النصُ على تغيير هويتِنا لأننا نسكنُ مع الله. فعالمُنا عالمُ اللهِ أولاً وأخيراً. ونحن كهنةٌ وهذه هويتُنا الأساسيةُ. وكهنوتُ المؤمنينَ ينقضُ العنصريةَ. فكلُّنا ومن كلِّ الشعوبِ - كما يقول النص اليوناني للآية الثالثة - في معية الله. إن استراتيجيةَ الكنيسةِ هي محاربةُ العنصريةَ والتأكيد على مساواة جميع البشرِ أمام الله، متساوون في المحبة والأهمية والقيمة. ويشملُ الكهنوتُ أيضاً المساواةَ الجندريةَ. فدور النساءِ في امتداد ملكوتِ الله ليس أقلَّ أهميةً من الرجالِ. وتشملُ الاستراتيجيةُ إزالةَ الدموعِ من العيونِ ورائحةَ الموتِ من الصحافةِ والإعلامِ والشوارعَ والقضاءِ على أسبابِ الحزنِ والصراخِ والأوجاعِ. نحن رسلُ الحياة ولسنا رسل الموت. ننشر كلَّ أصناف الحياة. والحياةُ هي بناءُ العلاقة مع الله ومع البشر ومع الخليقة على أساس المحبة.

     ثالثاً، بعد أن زوَّدَنا الرسولُ يوحنا بالرؤيا وبالإستراتيجية يعطينا التأكيداتِ الإلهيةَ الضروريةَ لنا. وتظهرُ التأكيداتُ بعددٍ من الاقتباساتِ. قال الجالسُ على العرش: ها أنا أصنعُ كلَّ شيءٍ جديداً. يؤكِّدُ اللهُ أنَّه هو الحاكم رغم اضطرابات الحياةِ. يؤكدُ أنَّه هو الملكُ رغم ثوراتِ الشياطين. ونتذكرُ إشعياءَ الذي رأى اللهَ جالساً على العرشِ رغمَ عدم الاستقرارِ السياسي. ونتذكرُ رؤيا عرش العدالةِ والإنصافِ والخلاص في الاصحاحات 4 و5 من سفر الرؤيا. يؤكدُ اللهُ أنَّ المستقبلَ أفضلُ من الماضي لكلِّ أتباعِ الخروفِ. وقال اللهُ أيضاً: اكتبْ فإن هذه الأقوالَ صادقةٌ وأمينةٌ. يعطينا اللهُ كلمتَه المقدسةَ لتُرشدَنا ولتنيرَ دربَنا زمنَ الظلامِ. وتؤكّدُ الكلمةُ أنَّ اللهَ معنا ولنا وسيرعانا وسيضمنُ وصولَنا إلى بَرِ الأمانِ. وقال اللهُ أيضاً: قد تمَّ. تم الخلاصُ على الصليبِ وتمَّ غضبُ الله بسكب الجاماتِ لكن التاريخَ أيضاً سينتهي. فلكي نطمئنَ علينا أن نكتشفَ هويةَ اللهِ فهو الألفُ والياءُ، البدايةُ والنهايةُ. ولكي نطمئنَ علينا أن نكتشفَ عملَ اللهِ فهو يعطي العطشانَ من ينبوعِ ماءِ الحياةِ مجاناً. ولكي نطمئنَ علينا أن نثقَ بوعودِ اللهِ ونتغلّبَ على الخطية. فمن يغلبُ يرثُ كلَّ شيءٍ وأما من يخونُ الربَ فنصيُبة البحيرةُ المتقدةُ بنارٍ وكبريتٍ.

     في الختام، لتكن سنةُ 2024 سنةً مختلفةً لأننا نحن مختلفون. فعيونُنا مليئةٌ بما يريدُه اللهُ. ولتكن سنةُ استعدادٍ للنهضةِ القادمةِ. وتستعدُ الكنيسةُ وتُعدُ قلبَها وأدواتِها لخدمةِ بلادِنا. ولتكن سنةُ تجسيدِ معيةِ اللهِ وسنةُ التمسك بالوعود الإلهية التي تمنحنا الضمانات الإلهية. فالله جالسٌ على العرش في بيتي وعملي وكنيستي وأقوالُه صادقةٌ وأمينةٌ وبنعمتهِ سننتصرُ ويزولُ الشرُ ويبقى الخيرُ. كلُّ عامٍ وأنتمُ بألفِ خيرٍ.