كثيرا ما نتساءل كمؤمنين ماذا يجب أن يكون موقفنا تجاه المظالم التي يعيشها العالم في هذه الأيام؟ قد تختلف الإجابات عن هذا السؤال الهام. فهناك من يحاول أن يتجنب الحديث عن هذا الموضوع، ويعزل نفسه عن الأحداث التي تجري من حوله. وتكون الحجة عادة أننا كمؤمنين يجب أن لا نتدخل في أمور هذا العالم الفاني ونحافظ على نقائنا الروحي. وهناك على العكس من هذا الموقف تماماً، من يعلن أننا كمؤمنين علينا أن نقف ضد الظلم وبكل وضوح. وبين هذين الموقفين هناك مواقف متباينة بالنسبة لهذا الموضوع. فما هو الرأي الصحيح في هذا المجال؟
تعليقاً على هذا الأمر أقول: شاهدت قبل فترة حوارا دار بين مقدّم برامج مسيحية مع مقدّم موقع خاص لشخص ملحد من خلفية إسلامية. وكان الحوار يدور حول الحرب المشتعلة بين إسرائيل وحركة حماس في غزة. والذي لفت انتباهي قول الشخص الملحد أن موقفه تجاه الحرب الطاحنة الآن ينطلق من موقفه الإنساني تجاه ما يحصل في غزة، من قتل ودمار وتشريد وعقاب جماعي. بينما كان موقف مقدّم البرامج المسيحية مع الأسف هو تبرير هذه الحرب والجرائم التي تُرتكب خلالها، لأنها أتت كرد فعل لما حصل يوم السابع من أكتوبر تشرين الأول الماضي، وأنه ليس مهماً بالنسبة إليه الكيفية التي تجري بها هذه الحرب، وعدد الضحايا الذين يسقطون. لا سيّما أنه قال إن لديه قائمة تبين عدد القتلى في حروب جرت في بلدان أخرى بالماضي القريب والبعيد. وكأن لسان حاله يقول: إنها الحرب، فماذا نتوقع من الحرب ونتائجها المؤلمة على السكان الأبرياء. ولم يكتف بهذا، بل حاول تزييف حقائق تاريخية حدثت أثناء النكبة في عام 1948، ونكران حقائق موجودة في أرض الواقع اليوم. وهذا ما صدمني وأثار مشاعري. ولعلّ الأمر المؤلم والمؤسف أن كثيرين ممن يستمعون له، قد وقعوا ضحيّة لأكاذيبه وضلاله.
وهنا أخذت أتساءل: عن ماذا يتحدّث مقدّم البرامج المسيحية هذا؟ ولماذا يورّط نفسه بتبني رواية غير صحيحة عن أحداث حصلت في الماضي وتحصل في الحاضر؟ مع العلم أن هناك في الطرف الإسرائيلي من هو مع السلام، ويقف بكل جرأة وشجاعة ضد الاحتلال وبناء المستوطنات. وأتساءل أيضاً: أليس أمراً غريباً ومستهجناً أن يتبنى شخص ملحد الموقف الإنساني؟ وأن يستنكر أعمال القتل وتهجير السكان والعقاب الجماعي في غزة؟ بينما في المقابل يقف الشخص المسيحي المؤمن مبرراً جرائم المحتل ويدافع عنها؟ أو ليس الموقف الإنساني الذي عبّر عنه الشخص الملحد هو الموقف الصحيح والسليم الذي يجب أن يتبناه كل شخص مسيحي حقاً؟
لكن، ألم تنبع الأفكار الإنسانية من المسيحية أصلاً؟ أو لم ينادِ المخلص المسيح بالمحبة والسلام ودعانا إلى نبذ العنف والكراهية؟ فلماذا هذا التناقض الصارخ في موقف مقدّم البرامج المسيحي هذا وبين ما يدّعيه من إيمان؟ أمر مؤلم فعلاً أن يتبنى الموقف الإنساني شخص ملحد، بينما يقف ضده شخص يدّعي المسيحية والدفاع عنها.
والآن ما هو تعليم الكتاب المقدس بهذا الخصوص؟ لقد دعتنا المسيحية بكل وضوح إلى المحبة والسلام ونبذ كل أنواع العنف، وأن نقف مع الناس المظلومين في كل مكان. ولعلّ ما كتبه حتى أنبياء العهد القديم هو أكبر دليل. فها هو النبي إرميا يحثّ الشعب قديماً قائلاً: "هكذا قال الرب: أجروا حقاّ وعدلاً، وأنقذوا المغصوب من يد الظالم، والغريب واليتيم والأرملة. لا تضطهدوا ولا تظلموا، ولا تسفكوا دماً زكياً في هذا الموضع" (إرميا3:22). وعندنا أيضاً أكبر مثال الملك والنبي داود الذي لم يسمح له الله ببناء الهيكل قديماً، والسبب ليس لأنه أخطأ خطيئته الشنيعة المعروفة، لكن لأنه سفك دماء كثيرة. إذ كان كلام الرب إليه قائلاً: "قد سفكت دماً كثيراً وعملت حروباً عظيمة فلا تبني لاسمي لأنك سفكت دماء كثيرة على الأرض أمامي(1أخبار الأيام7:22و8). وهنا نلاحظ مدى حرص الله على أهمية حفظ حياة الإنسان وعدم قتله لأخيه الإنسان. ولهذا أتت الوصيّة قديماً بعدم جواز القتل: "لا تقتل"(خروج13:20). وزاد عليها المسيح محذراً إيانا حتى من الغضب الباطل(بشارة متى22:5).
من المعلوم أن المسيحية هي التي أكدت على المحبة، فالله محبّة. وأكدت أيضاً على السلام. السلام مع الله، والسلام بين الإنسان وأخيه الإنسان. ودعتنا لكي نكون رسل محبة ودعاة سلام. وأن نستنكر أعمال القتل الجماعي والتهجير وسلب الحقوق. فهل ترانا كمسيحيين مؤمنين ندعو إلى وقف الحرب ورفع الظلم عن إخوتنا، واحقاق الحق والعدل، ليس في بلادنا فحسب بل في كل مناطق النزاع في العالم. هذا هو الموقف المسيحي الإنساني المطلوب منّا. وليس التفرّج على ما يجري من حولنا وكأن الأمر لا يعنينا.