المزاميرُ السَّتةُ الأخيرةُ مهمةٌ في التقليد اليهودي. يتلوها اليهودُ كلَّ صباحٍ قبلَ تلاوة الشهادة القائلة: اسمع يا إسرائيلُ، الربُّ إلهنا ربٌ واحدٌ، فتحبَّ الربَّ إلهك من كلِّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ قوتك (تثنية 6: 4-5). وتتميز هذه المجموعة من المزامير بعنوان واحد يتوجها في مطلع مزمور 145. والعنوان هو تسبيحة لداود. وهذه هي المرة الوحيدة التي يُستخدم فيها الاسم العبري (تسبيحة/תהילה) كعنوان لمزمور. وأهميةُ هذا العنوان تكمُنُ في تسمية كلّ السّفرِ في التقليد العبري إذ لا يُدعى السفرُ بالمزامير بل يُسمّى سفر التسابيح (תהילים). وكلمة التسبيح (תהילה) تظهر في بداية المزمور 145 وفي آخر آية فيه أيضاً لأن المزمور يسعى إلى توسيع التسبيح لكل البشر. والكلمة سبحوا الرب (هللويا) تلعب دوراً مهما في تنظيم الكتابين الرابع والخامس وفي تقسيم أسفار المزامير. باختصار، يوجهنا سفر المزامير إلى نهاية النفق ويصوّرُ لنا نهايةَ الرحلة. فبعد الآلام والرثاء والصُّعوبات والخيانة والمرض والتعب ومحاربة الشياطين والحروب والمجاعات يريدنا أن نتوجه نحو التسبيح وتكون طائرةُ حياتنا وأفكارُنا متوجةً إلى مطار التسبيح. فلماذا يشدُّد السفرُ والتقليد اليهودي على أهمية التسبيح؟ دعونا نتأمل في هذا الموضوع من منظور المزامير الستةِ الأخيرةِ.
أولاً، التَّسبيحُ دعوةٌ لاكتشاف عظمة الله (مزمور 145)
تبدأُ هذه المزامير الستة بمزمورٍ أبجديٍ أوّلهُ حرف الألف العبري وآخره التاء، آخر حرف عبري، ويتسلسل بالأبجدية العبرية آية تلو الأخرى بحسب الترتيب الأبجدي. ويدعونا هذا المزمور إلى اكتشاف عظمة الله. فعظمةُ المملكةِ متعلقةٌ بعظمة الملكِ وعظمةُ الخليقة متعلقةٌ بعظمة الخالق وعظمة اللوحة متعلقة بعظمة الفنان وعظمة الاختراع متعلقة بعظمة المخترع. ورغم أنَّ المملكةَ تسود على كل البشر وتنتشر في كل دورٍ إلا أنَّ عظمتَها لا تكمُن في الجغرافيا ولا في امتداد التاريخ بل في ملكها وفي طبيعة المُلك مما يدعونا للتسبيح.
فيقدم صاحبُ المزمور الله الملك ويقول: عظيمٌ هو الربُ وحميدٌ جداً. والكلمة "حميد" تعني أن الربَّ محمودٌ ومُسبحٌ ومُهللٌ جداً. وكل ذلك بسبب طبيعته التي تظهر بأعماله. فهو الملك الجبار الذي يقهرُ أكبرَ الصُّعوبات. قهرَ فرعون وآلهةَ مصرَ وقهرَ تحدياتِ كنعانَ وقهرَ تحدياتِ الإمبراطورياتِ الآشورية والبابلية والفارسية وأسعفَ شعبَه في كلّ الظروف. أسعفهم بالمعجزاتِ وبالآياتِ. والإلهُ الممدوح هو صاحبُ كثرة الصلاح أي أنه مليءٌ بالخير ويفيضُ عدلاً. هذا الملكُ يتعاملُ معنا كأنَّنا من نفس الأسرة فيُبدي الحنان والرحمة وطول البال ويكثرُ من الرحمة كما نفعل مع أولادنا وبناتنا (آ 8). وهو محبُ البشر جميعاً دون تمييزٍ. هو صاحب الكلمة الأخيرة الذي تحدى العنصريةَ والفئوية فهو صالحٌ للكلّ ومراحمهُ على كلّ أعماله، صالحٌ لليهودي وللعربي. لقد أظهر سفر المزامير شمولية رحمة الله لكل الشعوب ولكل العالم. وكلهم مدعوون لاكتشاف عظمة الله. إذا إن كنتم تريدون اكتشاف عظمة الله فمارسوا التسبيح. ومن اكتشف عظمته لا يستطيع إلا أن يسبحه.
ثانياً، التسبيحُ دعوةٌ لاكتشاف معنى الحياة (مز 146)
يدعونا المزمور 145 إلى تسبيح الله بسبب عظمته وصلاحه. فبعد اكتشاف عظمة الله نجد الدعوة الثانية في مزمور 146. فهناك، التسبيح دعوةٌ لاكتشاف معنى الحياة. ليس معنى حياتنا بتحصيلنا العلمي أو برصيدنا في البنوك أو بتأثيرنا البشري على المجتمعات بل المعنى الأعمق لحياتنا هو تمجيد الله. فبدون أن نمجد الله تكون حياتنا وأعمالنا وأموالنا وكل ما نفعله باطلا وعبثاً. ونجد في مركز التمجيد تسبيح الخالق والفادي. وهكذا يقولُ صاحبُ المزمور: أسبِّحُ الربَّ في حياتي. حياتُهُ مشغولةٌ بتسبيح الرب وبمدحه. ويضيف قائلاً: وأرنّمُ لإلهي ما دمتُ موجوداً، أي أنَّ التسبيحَ يمنح حياتَه المعنى في كل لحظات حياته وفي كل قطرة من عمره. فالتسبيح يعطي معنىً للحياة طول العمر ولا ينحصر في موسم واحد. فيجب أن نسبح الله قبل الزواج وبعده، قبل إنجاب الأولاد وبعد الانجاب، قبل الشيخوخة وبعد أن نشيخ، قبل الامتحان وبعده، في السمن وفي النحافة، في العسر وفي اليسر. فالتسبيح هو القارب الذي يقودنا إلى هدف الله من حياتنا. ونحن الأوتار التي خلقها الله لكي تعزف تسبيحه وتنغم تمجيده وتراً تلو الآخر وسنةً تلو الأخرى.
ويضيف صاحبُ المزمور أنَّ التسبيحَ يؤهّلنا أنْ نكتشفَ معنى الحياة ليس خلال عمرنا فحسب بل بعد انتهاء العمر أيضاً. فيتحدث عن الفرق الشاسع بين مدح البشر والاتكال عليهم وبين الاتكال على الله واهب الخلاص. فالإنسان تخرج روحه فيعود إلى ترابه. وهكذا يشجعنا صاحب المزمور أن ننظر إلى ما بعد العمر. فالتسبيح يمنحنا معنىً لوجودنا ليس في هذا العمر فحسب بل يجعل تسبيحَنا جزءاً من سيمفونيةٍ تمتد إلى أبد الآبدين. نحن نتلامس مع الأبدية في التسبيح. وفيه تتواصل الأرض مع السماء والماضي مع الحاضر والمستقبل. وثمره يمتد إلى أبد الآبدين. ولهذا يطوّب صاحبُ المزمور من يعتمد على إله يعقوب لأنه حافظ الأمانة إلى الأبد. ويتحدث عن دورنا في تمجيد الله إذ يستخدمنا الله في نشر العدل للمظلومين وإعطاء الخبز للجياع وإطلاق الأسرى من السجن وشفاء العميان بالبصر والبصيرة وتقويم المنحنين وحماية الغرباء ومساعدة الأيتام والأرامل. فبهذه الطرائق نعظّم ونسبّح الله الملك. وهكذا نختبر معنى وجود الله من خلال طبيعة مملكته التي تدوم إلى الأبد بالمحبة والعدالة وبملكها إله صهيون.
التسبيحُ دعوةٌ للبناء وللشفاء وللارتقاء (مز 147)
بعد الحديث عن التسبيح كدعوةٍ لاكتشاف عظمة الله ولاكتشاف معنى الحياة، يظهر النص بركات التسبيح. فالتسبيح دعوةٌ للبناء وللشفاء وللارتقاء وذلك بحسب المزمور 147. يشجعنا صاحبُ المزمور على التسبيح فيقول: التسبيح ملذٌ ولائقٌ. وكما يبدو أن التسبيح مرتبط ببناء أورشليم وبجمع منفيي إسرائيل. التسبيح هو أداة تحرك قلب الله وتحرك يده لتبني أورشليم ولتحرر المأسورين وتطلقهم نحو أورشليم. ويبني التسبيح الكنيسة بشبابها وبناتها وبشيوخها وشيخاتها. ومن بركات التسبيح الحصول على الشفاء. فالتسبيح يشفينا من الخوف والكراهية والقلق ويحررنا من الذات والإدمان والأنانية وضعف الإيمان والفتور. لنملأ بيوتنا بالتسبيح. يقول صاحب المزمور أنه عندما نسبح الرب يشفي الله منكسري القلوب ويجبر كسرهم. والتسبيح يقود إلى الارتقاء. فعندما نرفع الله يرفعنا القدير. تذكروا كيف رفع داود الرب عندما تحدى جليات. أكرم الله ورفع اسمه فرفعه الله. ونجد في المزمور 147 التأكيد على التسبيح في بداية فقراته الثلاثة (آ 1، 7، 12). ونرى في المزمور أن أورشليم حصلت على البناء والشفاء والارتقاء فسبحت أورشليم الرب لأنه شدد عوارضها وبارك بنيها وأشبعها سلاماً ورفعها إذ لم يصنع هكذا بأحدٍ سواها.
التسبيحُ دعوةٌ للاشتراك مع مسبحي الأرض والسماء (المزامير 148-150)
ينتقل صاحب المزامير من مغزى ومعنى التسبيح إلى تعميم التسبيح. وهكذا نرى أن التسبيح دعوةٌ للاشتراك مع مسبحي الأرض والسماء. يا شمس سبحي الرب. يا قمر سبح الرب. يا قطة سبحي الرب. يا جميع الكواكب سبحوا الرب. فهو الخالق فالماء والمطر والثلج والجبال والشجر والحجر جميعها تعكس عمل الرب. هو المخترع وهو الخالق وهو المهندس والمنظم وشافي الطبيعة.
ولا ينحصر التسبيح بنجوم السماء بل يمتد إلى الاتقياء كما نرى في مزمور 149. فليفرح شعب الرب بملكهم وليسبحوا اسمه برقص وبدف وبعود. ليبتهج الأتقياء بمجد ليرنموا على مضاجعهم.
ويمتد التسبيح من السماء إلى الأرض ومن الفرد إلى كل المسكونة ومن الكلمة إلى كل نسمة. يريدنا الله أن نسبّحه بكل نسمة هواء، وبالموسيقى وبألحان النفخ وبنغمات الأوتار وبالإيقاع وباليدين وبالرجلين وبالخصر وبالكتفين وبالعيون وبالأذنين وبالشهيق وبالزفير، في البيت وفي العمل، في النهار وفي الليل، في اليسر وفي العسر، في كل مكان وفي كل آن نسبح ولا نتوقف عن التسبيح مهما كان الحال. إن كان هذا حالنا في العهد القديم فما هو حالنا في ضوء ولادة الله الابن في بيت لحم؟ وما حالنا في ضوء من عاش في بلادنا مجسداً ملكوت الله؟ ما حالنا في ضوء الصليب؟ ما حالنا في ضوء القيامة؟ ما حالنا في ضوء الصعود؟ ما حالنا في ضوء يوم الخمسين ومجيء الله الروح القدس؟ ما حالنا في ضوء نصرة الكنيسة وانتشارها إلى أقصى الأرض؟ ما حالنا في ضوء وجود كلمة الله المقدسة بين أيدينا؟ ما حالنا في ضوء أمانة الله عبر أكثر من ألفي عام؟ ما حالنا اليوم؟ هل نسبح أم نحبس أنفاسنا ونقيد قلوبنا ونكبل أفواهنا وأيدينا؟
في الختام
أذكركم أن التسبيحَ دعوةٌ لاكتشاف عظمة الله ومعنى وجودنا. هو دعوة للبناء والشفاء والارتقاء. هو دعوة للاشتراك مع أعظم سيمفونية عرفها التاريخ. اشتركت فيها كل الخليقة في كل الأزمنة. اشترك فيها أعظم القديسين وتجمهروا حول العرش قائلين مستحق هو الخروف أن يأخذ المجد والكرامة والقوة. هو الله هو المسيح المصلوب. هو محب البشر. هو كل نبضة أحيا من أجلها. أسبحك يا الله في كل الظروف وفي ضوء الأبدية. واكتشف حياتي بالذوبان في كيان الله.