لعل أحد المصادر الاساسية للحروب الدامية التي تشتعل بين افراد الجنس البشري منذ القدم هي الانانية- حب الذات والتمركز بها.

.

انه فكر المقتنع انه الأفضل، وانه لا مكان لآخر بجانبه. اريد الأكثر والافضل لنفسي وبأي طريقة كانت ولا يهمني مصير الآخر. انا وليس غيري (اشعياء 47: 8 ب).

يدور مسلسل قتال الناس مع بعضهم في كل العصور منذ خصام آدم وحواء مع الله اثر تكبّرهما وانانيتهما وعصيانهما لوصيته. ويلحقه كبرياء قايين الذي دبّت فيه الغيرة بسبب قبول الله لتقدمة اخيه هابيل دون تقدمته، مما جعله يهاجم أخيه ويرديه قتيلًا.

وفي عهدنا الحاضر نرصد منبع الحروب بين البشر فنجده في ذات فكر الانانية النابع من الكبرياء.

لقد حث الكبرياء قائد دولة لحشد الوية جيشه من اجل احتلال دولة مجاورة وبسط سيطرته عليها فيضيف ذلك لنفوذه ويتغذى بذلك كبرياؤه. انه ينشد العَظَمة ويبغي ان يكون امبراطورًا تتغنى بأمجاده مجلدات التاريخ. للمثل وليس للحصر، نذكر فعلة رئيس العراق صدام حسين حين غزا الكويت عام 1990 والفيهرر الألماني ادولف هتلر حين غزا بولندا عام 1939، فاندلعت، نتيجة لذلك، الحرب العالمية الثانية بعواقبها المُدمِرة الوخيمة.

لكن الكبرياء وما ينتج عنه من الانانية لا يكون فقط من صنع ذاتي لإشباع حب النفس او الاستئثار بالسلطة والمزيد منها او الرغبة في العظمة والتخليد في سجلات التاريخ. ففي كثير من الاحيان توّلد هذه الانانية ايديولوجيات قومية من نوعها تقصي الأخر وتَعزو لشعبها او امّتها مكانة خاصة. انها الانانية الجماعية التي تمجد قوميتي وشعبي وترفض وتقزّم الشعوب الأخرى.

أيديولوجيات مثل هذه تدفع الرؤساء والقادة للقتال غير آبهين بمقتل رعايا الخصم وحتى رعاياهم في سبيل تحقيقها. فمثلا الأيديولوجية النازية التي نادت ب- "دويتشلاند اوفر ألليس" (المانيا فوق الكل) حذت بهتلر وكل شعبه لإفناء من اعتبروهم ادنى قيمة منهم، ابتداء باليهود في محرقة الستة ملايين انسان ليتبعها كما كان مفروضًا في ابادة العرب والغجر، لو لم يُهزَم النازيون في نهاية المطاف على يد الحلفاء.

قد لا تكون بعض الأيديولوجيات مثل النازية بهذا الوضوح في الرغبة في القضاء على الآخر، ولكنها قد تكون صارمة في رفضها لكل من لا يؤمن بها او يخضع لها. وهكذا يخلُص منفذو هذا الفكر الى النتيجة انه لا مفر من إيذاء من يرفضها عن طريق تهميشه او عزله او تشريده او حتى القضاء عليه في حال رفض الخضوع لها.

وفي هذا المضمار، تثير فينا الصرخات "لنجعل أمريكا عظيمة" هواجس عن انانية قومجية أخرى قد تقود لرفض الآخر واقصائه وتقزيمه لدرجة افنائه.

وللأسف نجد أن هناك ايضًا أيديولوجيات دينية تتبنى نفس الفكر الإقصائي المبني على الانانية، ليس الفردية وانما الجماعية. اذ انه فضلًا عن مناداتها في صحتها المطلقة (وهذا بحد ذاته طبيعي) نراها تمنع حق الآخر بأن يرفضها. وهكذا تصبح الاشادة بشعب الله المختار او بخيرُ امةٍ اُخرِجَت للناس سببا لرفض الأخر. يتجلى ذلك في اقصائه او غزو ارضه في حملات شبه صليبية (والصليب منها برّاء) او اقامة محاكم تفتيش لمقاضاة من تسوّل له نفسه مجرد التشكيك في الأيديولوجية الدينية السائدة. انها تؤدي لخصام فخلاف فصِدام فحرب بما فيها من دمار وتنكيل وتشريد والم- وكلّها تدور في دوائر مفرغة من الانتقام. منبع هذه الأيديولوجيات هو الانانية والكبرياء: "أنا الأحسن" او "قوميتي هي الأفضل" او "ديني هو الوحيد الممكن". انها تمنحنا الحق في امتلاك الارض/ السماء والتنعُّم بخيراتها ليس في العالم القادم فحسب، وانما منذ اليوم وعلى حساب الآخر. انني في مركز الحياة والباقي هباء ومصيره التلاشي او على الاقل الخضوع.

لكن يسوع يعطي خير مثال مناقض للكبرياء والانانية. انه يقدم أبهى مثال عن اخلاء النفس (انظر فيلبي 2: 7).

 انه الاله الخالق والديّان والقادر على كل شيء، واقراره بذلك هو حق ليس بعده حق (اذ يقول في رسالة فيلبي 2: 6 انه حق لم يأخذه الرب يسوع خلسةً). رغم ذلك، لم يسعَ يسوع ان يرفع نفسه بل العكس. لقد تنازل من مكانه عن يمين العظمة وانحدر الى مذود بيت لحم. ولم يكن له خلال حياته على هذه الارض اين يسند رأسه. لقد سار طوعا الى صليب العار في أعظم عمل  تضحية رأته البشرية بعيدا عن اي ذرة من الكبرياء والانانية. فعل ذلك فقط لأجلك ولأجلي.

لم يكتف يسوع ان يمنحنا النموذج الكامل الحي لإخلاء الذات بعيدًا عن الانانية، لكنه طلب من اتباعه بوضوح ان ينكروا ذواتهم ويتبعوه (متى 16: 24) ، وان يتواضعوا تحت يد الله القوية (1 بط 5 :6).

ان هذا التناقض بين منابع الخصام (الكبرياء والانانية) وبين يسوع الذي يُخلي نفسه وينادي بالسلام صارخًا ويستوجب وِقفة تأمل عميقة.

كيف يمكن ان ننقل قيم هذا المثال الحيّ من اخلاء الذات والمحبة الخالصة النادرة الى عالم اثقلته الانانية وما ينبع عنها من رفض الآخر والخصام وحتى الاقتتال؟

ترى هل سيحمل اتباع المسيح رسالة سيدهم الذي اعطى من ذاته بعكس ما نشهده من حب الذات والأيديولوجيات الإقصائية (قومية ودينية فحسب)؟ هل يقومون بذلك ام انهم اعتزلوا او يئسوا من صنع السلام في عالم في أمَسّ الحاجة لمن يقدم لهم مثالا يحتذى به؟