For the English version - https://www.comeandsee.com/view.php?sid=1436
في الرابع والعشرين من شهر نيسان 2024، يوم الأربعاء الماضي، انتقل والدي نقولا سليم خوري إلى الأمجاد السماوية عن عمر ناهز 88 عامًا وذلك بعد أن صارع مرض "الزهايمر" لسنوات طويلة. ولقد قامت والدتي سهيلة، المربية المتقاعدة، بالاعتناء به في البيت طوال فترة مرضه وبكل حنان ومحبة بقيت معه حتى لحظاته الأخيرة دون أدنى شكوى، وجسّدت بذلك محبة المسيح غير المتناهية.
ينحدر والدي من عائلة خوري التي تعود جذورها إلى قرية السّجرة المهّجرة، وكان العديد من أجداده كهنة كما يُشير اسم العائلة. في عام 1948، خلال فترة النكبة الفلسطينية، أصبح والدي لاجئًا في بلاده، وهو في ذلك الوقت لم يبلغ من العمر 13 عامًا. ولقد أُجبرت عائلته على ترك مدينة طبريا والصعود على متن إحدى حافلتين كانتا في الانتظار: إحداها كانت متجهة شرق نهر الأردن، والأخرى نحو مدينة الناصرة. ولحسن الحظ، اختارت العائلة الحافلة المتجهة إلى الناصرة.
وهكذا اضطرت العائلة المكونة من عشرة شخص أن تبدأ حياتها من الصفر، مثلهم مثل العديد من الفلسطينيين المهَّجرين. فبعد أن فقدوا أرضهم وممتلكاتهم في طبريا، انتهى بهم المطاف في مدينة عكا الساحلية. عاش والدي في عكا وعمل خلال سنين المراهقة في أعمال مختلفة لدعم عائلته. ثمَّ أصبح مُدرسًا صناعيًا وعمل أيضاً في مشاريع سياحية. وفي عام 1969 تزوج من والدتي سهيلة خوري وهي مربية أجيال ورزقوا بخمسة أولاد: نسيم، رلى، إيريني، دينا، ونزار.
كان والدي رائدًا ومبادرًا بطبيعته. كرّس حياته لتقدم مدينة عكا ومجتمعها. فنال احترامًا واسع النطاق كمعلم ومربي وعضو فعّال في المجتمع. في ستينيات القرن الماضي، ساهم والدي في تطوير التعليم الصناعي في عكا، واهتمَّ بتوجيه وإرشاد الشباب وبتزويدهم بمهارات مختلفة تُعينهم على مواجهة تحديات تلك الفترة الصعبة. وقد أعرب العديد من المشاركين في جنازته، بمن فيهم تلاميذه، عن تقدير واحترام التفاني والكرم والدعم الذي قدمه والدي، والذي ترك أثرًا عميقًا في حياتهم.
كما كان والدي من مؤسسي حضانة النساء العكيَّات عام 1975، وساهم في تقديم الدعم بطرق متعددة. كان نشيطًا في نادي الروتاري، وهي منظمة دولية غير ربحية مُكرسة لخدمة المجتمع ولتعزيز التفاهم والتسامح بين الثقافات.
وإضافةً إلى عمله في مجال التعليم، ألهم والدي الكثيرين في مجال السياحة. فلقد قاد المجموعات السياحية الى أوروبا الشرقية ودول الشرق الأوسط، وفي بداية الثمانينات، أحضر "أميرة عكا" وهي أول سفينة سياحية تعمل في ميناء عكا الخلاب. شكّل وصول هذه السفينة حدثًا استثنائيًا للمدينة، حيث مُنحت الفرصة للزوار لاستكشاف أسوار عكا القديمة، التي تحمل ذكريات الحروب والغزوات، ونال الزوّار نظرة فريدة عن تاريخ عكا العريق. إن أهل بلدي عكا، بروح دعابتهم الخاصة، يحملون فخراً عميقاً لمدينتهم التي تمتد عبر خمسة آلاف عام، والتي حتى نابليون بكل جبروته لم يتمكن من احتلالها.
وتميّز والدي بموهبته في تقريب الناس وبناء الجسور بينهم، فتوسعت دائرة أصدقائه عبر مدن وخلفيات مختلفة لتشمل مسلمين ويهود ودروز وبهائيين وغيرهم. بالنسبة له، كان كل شخص يلتقيه يصبح صديقًا عزيزًا. كما وكان يلجأ إليه الأشخاص للتوسط في تسوية الخلافات بين العائلات، نظرًا لمهارته في التعامل مع المواقف بحكمة.
وكتلميذ أمين للسيد المسيح، كان نشيطًا في خدمة كنيسته، كنيسة الروم الأرثوذكس في عكا، إذ شارك في عضوية المجلس الملّي وخدمها بإخلاص وشجع اندماجها بالمجتمع. لقد شهدنا أنا وإخوتي فرح مساعدة الآخرين في والدنا، كما شعرنا بتثقله والتزامه بخلق تأثير إيجابي في مجتمعنا. كانت أفعاله تتحدث أكثر من الكلمات، حيث ساعد المحتاجين بصمت، ووزع الكتب المقدسة، وعمل بجد لتعزيز التعايش السلمي بين الأديان المختلفة ومجموعات عكا المتنوعة. لقد كان شغفُه الأكبر رؤيةَ مجتمع إسرائيلي متسامح يعيش فيه اليهود والفلسطينيون بانسجام وتفاهم. وعلى الرغم من استمرار الصراع، إلا أن عكا جسّدت في أوقات عديدة هذا التعايش المنشود.
كرجل عائلة بامتياز، بذل مجهوداً للم شمل العائلة الموسعة من مناطق مختلفة في كل فرصة ومناسبة، وعمل على تقريبهم من بعضهم. كان حضوره في المنزل لا يُمكن تجاهله؛ فصوته عالٍ ونشاطه صاخب، وكان لديه تدفق من الأفكار والاقتراحات التي كان يطرحها في جلسة واحدة. لديه قصص لا تنتهي، تجعل المنزل مكانًا حيويًا ومفعمًا بالدفء. وفي كل مرة نقوم فيها بالزيارة مع الأحفاد، كان حاضرًا لتسليتهم "ومقاهرتهم”.
ولقد كان بالنسبة لي أكثر من أب، كان مرشدي ومصدر إلهامي. سأثمّن ما عشت الدروس التي علّمني إياها عن الإيمان وعن الصمود. لقد آمن دائمًا بأن الله يحمينا ويرشدنا حتى في أصعب الأوقات. شجعنا على السعي في تحقيق أحلامنا بجرأة وثقة، وعلى مواجهة التحديات بشجاعة، والعثور على القوة بالرغم من الصعوبات. شجعنا أيضاً على الإيمان والثقة في وجود خطة إلهية تتحكم في تفاصيل الأمور.
رغم أننا ترعرعنا في أجواء محافظة، إلا أن والدي أصر دائمًا على تشجيع حريتي كفتاة شابة. شجعني أن أفكر باستقلالية وأن أتخذ القرارات بنفسي. هذا التشجيع قادني نحو خوض تجارب واختيارات كثيرة. لقد دعمني والدي في كل قراراتي، وكان يتكرر قوله لي: "لا شيء مستحيل، الأحلام تتحقق بالعمل الجاد والمثابرة ". وما زلت أسمع تلك الكلمات تتردد في ذهني كلما واجهت تحديات في حياتي.
شكرًا بابا على تجسيدك جمال الآب السماوي من خلال نموذجك كوالد. إرشادك لي قرّبني إلى الله.
إننا نحتفل اليوم بحياة رجل متميّز بحق، فهو زوجٌ مُخلص، ووالد لخمسة أبناء وبنات وجد لخمسة عشر حفيد وصديق لآلاف الناس من شتى الخلفيات.
بابا، سنفتقدك كثيرًا لكنك ستظل حاضرًا في ذاكرتنا وقلوبنا لنكمل طريقك، إلى أن نلتقي مجددًا في السماء، فلترقد روحك بسلام في أحضان أبينا السماوي.