عند مدخل كنيسة البشارة الأرثوذكسية في الناصرة، نجد عبارة مكتوبة باللغة اليونانية تحت الصليب:
"Η ΕΚΚΛΗΣΙΑ ΤΟΥ ΕΥΑΓΓΕΛΙΣΜΟΥ"، والتي تعني "كنيسة البشارة". لا يعد التشابه في الصياغة بين "الإنجيل" و"البشارة" صدفة. في الواقع، الكلمتان من أصل لغوي واحد، وتشتركان أيضًا في مفهوم متشابه. في حين أن مصطلح "الإنجيل" أوسع من "البشارة"، إلا أن البشارة جزء مهم من الإنجيل. ونجد البشارة في الكتاب المقدس في أربعة مشاهد: يتحدث الله في المشهد الأول عن نسل المرأة الذي سيسحق رأس الحية ويعطي رجاء بعد الفشل الكبير لآدم وحواء. ويقول للحية: "أضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك. وأنت تسحقين عقبه" (تك 3: 15). في المشهد الثاني، يتحدث النبي إشعياء لشعب يختبر ظلم نسل الحية لكن الله يؤكد للشعب أنه معهم ويقول: "ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل" (أش 7: 14). ونجد في المشهد الثالث تحقق الرجاء في ولادة ربنا يسوع من القديسة العذراء. ويظهر نسل المرأة ربنا يسوع الذي يخلص من الخطايا (متى 1: 21-23). في المشهد الرابع، تظهر الحية القديمة، التنين، لتحارب الطفل وأمه، لكن التنين يخسر المعركة وتتحقق كلمات سفر التكوين. ويفوز الطفل وتنتشر مملكته، مملكة العدل والسلام والمحبة. ترتبط جميع هذه المشاهد بالبشارة، ولا ضير من القول بكنيسة البشارة.
لذلك، ليس من المبالغة اعتبار الناصرة، مدينة البشارة، هي أيضاً مدينة الإنجيل. وعندما نحتفل بعيد الميلاد، ونتذكر التجسد الذي حدث في الناصرة، من المهم بشكل خاص التفكير في دلالات الإنجيل. ونجد التعبير اللاتيني (Verbum Caro Hic Factum Est) في كنيسة البشارة في الناصرة. والتعبير يعني: والكلمة صار جسدا هنا. وهكذا يرتبط التأنس بالناصرة عند الأرثوذكس وعند اللاتين. ولا شك أن فهم الإنسانية الكاملة ليسوع، جانب أساسي من البشارة السارة، وضروري لفهم أهمية البشارة والإنجيل على حد سواء. إنسانية يسوع هي بوابة الإنسانية الجديدة والخبر السار. ولهذا بناءً على هذا المنظور نسأل: ما هو الإنجيل؟
هذا السؤال ضروري جدا لا سيما في الشرق الأوسط. حيث كثرت الحروب وانحرمنا من الأخبار السارة. نتألم بسبب الحرب في لبنان، وغزة، وسوريا. نتواجه مع الحرب الإعلامية والنفسية والحرب مع العنصرية والاحتلال والكراهية والغلاء والعنف والظلم. انتشرت المجاعات والأوبئة ودُمرت المراكز الصحية. صرخ كثيرون صرخة ألم، لكنهم لم يتهموا الله بالسوء، لم يسألوا عن الثيودسي أو مشكلة الشر بل تساءلوا عن وحشية وتوحش الإنسان. فأين الإنسانية؟ أين حقوق الإنسان؟ أين أصحاب الديمقراطية والقيم؟ أين الكنيسة؟ أين القادة الدينيون؟ أين الناسوت الذي يعكس صورة الله؟ صرخ الكثيرون عبر الزمن: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ اختلفت الصرخة اليوم، وصار الناس يصرخون أخي واختي في الإنسانية لماذا تركتماني؟ أنا هابيل ودمي يصرخ. أنا هاجر وابني يموت عطشاً. أنا يوسف المسجون ظلما. أنا بيد فرعون فأين موسى؟ أنا أرملة صرفة، ولم يبق معي أي طعام وسأموت جوعاً فأين إيليا؟ أنا دانيال وما أكثر الأسود من حولي. أنا آخاب وأرضي مسروقة. أنا المُلقى على حفة الموت فأين السامري الصالح؟ أليس إبراهيم إنجيلا أو خبراً ساراً لعصره ويوسف إنجيلا لإخوته وموسى إنجيلا في مصر والسامري إنجيلا للمُلقى على الأرض فأين الإنجيل لفلسطين والفلسطينيين وأين الإنجيل لإسرائيل والإسرائيليين؟ أين الإنجيل للناصرة وأهلها؟ من يقدمه ومن يعرضه؟ كل الأناجيل ناقصة دون الإنجيل الكامل الشمولي، الناسوت الخالي من كل خطية، الإنجيل ناقص بدون الإنسان الكامل والإنسانية المخلوقة من جديد. قد يتحدث البعض عن إنجيل الإنسان الكامل متناسين أنه هو بكر الخليقة الجديدة وأن إنجيله ليس عن إنسان كامل فحسب بل أيضا عن إنسانية جديدة. فشل الإنسانية اليوم هو نداء وصرخة استغاثة تطالبنا بتقديم الإنسانية الجديدة.
من هنا، أرى أنه ضروري لنا أن نتحدث عن الإنجيل، عن البشارة زمن غياب الأخبار السارة وتوحش البشر. فالإنجيل خطة الله لخلاص الكون، هو حكمة الله لعلاج مشاكل البشرية. هو الطريق لبناء مجتمع المحبة والغفران والسلام. الإنجيل مفيد للسياسيين ولعلماء الاجتماع. هو الحل الإلهي لمشاكل فلسطين وإسرائيل. هو الرؤيا الإلهية لبناء علاقات بشرية سليمة. هو الدرب للتخلص من الحروب وسفك الدماء والعنصرية والكراهية. هو خطة السلام ليس بين الإنسان والله فحسب بل أيضا بين الإنسان والإنسان، بين اليهود والأمم، بين يهود إسرائيل وشعب فلسطين. هو الرجاء بعد أن وصلنا إلى حافة الموت. هو الحياة رغم أن الميت قد أنتن. هو الطريق لبناء علاقة مع الله وصنع السلام. الإنجيل هو الإنسانية الجديدة التي يخلقها الله بالمسيح، إنسانية الغفران بدل الانتقام، إنسانية المحبة بدل الكراهية، إنسانية المسيح بدلا من التوحش والتشبه بأعمال الشيطان. الإنجيل هو الإنسانية التي لا يوجد فيها محاباة أو عنصرية بين يهودي وعربي أو بين ذكر وأنثى. الإنجيل ثورة دينية واجتماعية وسياسية. الإنجيل طريقة تفكير جديدة ورؤيا مجتمعية وأسلوب حياة. ونقف في موسم الميلاد لنسأل راغبين أن نتوسع بسؤالنا: ما هو الإنجيل وكيف نعيشه الآن وهنا؟ ولا نستطيع أن نجد الجواب دون الإنسان الكامل، المسيح ابن الإنسان.
لقد تشوه الإنجيل إذ حولّه بعض الإنجيليين إلى خطة إلهية عنصرية تقف مع شعب ضد آخر. وحوّله آخرون إلى تعليم غنوسي يهتم بخلاص الروح ويهمل الجسد. وحوله البعض إلى معلومات نكتبها أو ننشرها دون محبة صادقة ودون استعداد أن نتألم مع المتألمين ونناصر المظلومين. صار إنجيلهم يهتم بالسماء ويهمل الأرض. صار الإنجيل قطار الروح إلى السماء وليس قطار الملكوت إلى الأرض وأهملوا قول الرب ليأتي ملكوتك كما في السماء كذلك على الأرض. قدم عدد من المبشرين إنجيل خلاص النفوس ولم يقدموا الإنجيل الشمولي الذي يشمل خلاص النفس والروح والجسد والمجتمعات والبيئة. قدموا إنجيل الحقائق الروحية الأربعة وهي مفيدة للتبشير لكنها ناقصة. صرنا نشارك الإنجيل بدلا من أن نعيش الإنجيل الذي يجسّد ويوثّق القول بالفعل. لقد قدموا الإنجيل العمودي، أي العلاقة مع الله، دون الإنجيل الأفقي فالخبر السار ليس للفرد البشري فحسب بل للإنسانية بجميع جوانبها. قدموا إنجيلاً يصلي دون أن يطعم الفقراء ويزور المسجونين ويقف مع المظلومين ويتحدى القاهرين وينير ضمائر الظالمين. قدموا إنجيلا يهتم بالفرد وليس بالمجتمع والدولة والبيئة والعدل. قدموا إنجيلا طويل اللسان وقصير اليدين، ضخما في الكلام وقزماً في المحبة لا سيما نحو غير المسيحيين الإنجيليين والمتطرفين والمظلومين. من المؤسف أن إنجيل خلاص النفوس لا يعبر عن المعنى الدقيق وعن الإنجيل الشمولي في كتابنا المقدس. يؤكد رون سايدر هذا الأمر قائلا إن عددا من الإنجيليين لا يفهمون "الإنجيل" كما فهمه السيد المسيح.
لهذا وجدت أنه من المناسب أن نتأمل قليلا بالإنجيل الشمولي. أولا، هو إنجيل يرتبط بالعهدين القديم والجديد وليس بالعهد الجديد فحسب. فالإنجيل هو خطة إلهية وليس مجرد حدثا يتمحور حول الصليب والقيامة. يقول الرسول بولس، "بولس، عبد ليسوع المسيح، المدعو رسولا، المُفرز لإنجيل الله الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد" (رو 1: 3). نرى بوضوح أن الإنجيل موجود في الكتب المقدسة للعهد القديم وأنه يتحدث عن المسيح. ارتباط العهدين كارتباط الزواجي الكاثوليكي. فما جمعه الله لا يفرقه الإنسان. إن الوعود التي تحدثت عن العدالة والسلام وانتهاء الحروب وتحقيق هدف ورؤية شعب إسرائيل القديم تتحقق في إنجيل العهد الجديد. فإنجيل العهد القديم هو إنجيل الوعد بينما إنجيل العهد الجديد هو إنجيل التتميم. ولا نستطيع أن نقرأ العهد القديم بفصله عن إنجيل العهد الجديد (بدياغو). ولقد تأثر الرسل بحياة المسيح وصلبه وموته وقيامته وقرأوا العهد القديم في ضوء الحدث الكريستولوجي ويجب أن نفعل مثلهم. فقراءة العهد القديم دون العهد الجديد لا تقدم لنا الإنجيل وقراءة العهد الجديد دون القديم تحرمنا من الإنجيل الشمولي الذي يحوي العهدين. ومن المؤسف أن العهد القديم صار نذير شؤم للكثيرين بدلا من أن يكون إنجيلا. ولا أستغرب من هذه النتيجة. فعندما نفصل أي نص عن المسيح نكون معرضين للابتعاد عن ملكوت الله.
ثانيا، الإنجيل الشمولي مرتبط بالفرد والمجتمع والكون وليس بالفرد فحسب. يقول الرسول يوحنا في سفر الرؤيا: "بعد هذا نظرت وإذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعده من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة، واقفون أمام العرش وأمام الخروف، متسربلين بثياب بيض وفي أيديهم سعف النخل وهم يصرخون بصوت عظيم قائلين: الخلاص لإلهنا الجالس على العرش والخروف" (رؤيا 7: 9-10). نجد أن المخلصين متنوعين. ليس جميعهم من شعب واحد أو من لغة واحدة. فاللغات ستستمر والشعوب ستستمر لكنها ستتقدس وتتطهر من كل خطيئة. سنسمع العربي والعبري إلى أبد الآبدين. وستكونان لغتان متصالحتان ومتفقتان على تمجيد حمل الله. وسيقف اليهودي والعربي معا أمام الخروف. لقد كسر المسيح حائط العداوة وخلق مجتمعا يخلو من العنصرية ويتمتع بمواطنة كاملة لكل المواطنين. أضف إلى ذلك، لا ينحصر الخلاص بالنفس دون تقديس الثقافة واللغة التي عاش فيها الإنسان. ويصرّح الرسول بولس أن الخليقة كلها تنتظر المجد العتيد قائلا: "لأن الخليقة نفسها أيضا ستُعتق من عبودية الفساد إلى حُرية مجد أولاد الله" (رو 8: 21). يؤكد الرسول يوحنا هذه الأمر فيحدثنا عن سماء جديد وأرض جديدة (رؤ 21: 1). إن الإنجيل خبر سار للشعراء والفنانين ومحبي الأدب إذ سنسمع اللهجات واللغات والثقافات بعد أن تغتسل بدم المسيح. والإنجيل خبر سار لمحبي البيئة والطبيعة إذ لن يكون هناك تلوث وقمامة. وهذا الخبر السار يشمل الإنجيل الآن وفي المستقبل أيضا.
ثالثا، الإنجيل الشمولي يشمل الحياة قبل الموت وبعده ولا ينحصر بالحياة بعد الموت. الإنجيل الشمولي هو إنجيل الحياة الأبدية وإنجيل ملكوت الله في ذات الوقت. يشمل الإنجيل الاختبار الشخصي والحياة الأبدية التي تبدأ الآن لكنه يمتد ليشمل أيضا الحياة التي تتدفق من خلال المؤمن لتمتد من خلالها مملكة الله. نحن نختبر ملكوت الله الآن. الآن نمتلئ من روحه القدوس ونتقدس. الآن نعيش المحبة. الآن وهنا نكون صانعي سلام. لا نحتاج أن ننتظر الموت لنختبر ملكوت العدالة والنعمة والغفران، بل نجسد هذا الملكوت ولو جزئيا فنكون نحن الخبر السار لبلدنا. نحن الخبر السار بحياتنا أولا ثم بكلماتنا. وأعظم من ذلك نحن الخبر السار في كل مرة يظهر المسيح من خلال كلماتنا وحياتنا.
رابعا، الإنجيل الشمولي يشمل الإنجيل الاجتماعي والإنجيل الشخصي وليس الإنجيل الشخصي فقط. لنعيش مثل يسوع، ساعد الفقراء، وأصحاب الاحتياجات الخاصة، وتحدى المتدينين المتكبرين، أنصف المرأة أمام مجتمع ظالم. الإنجيل الشمولي هو المسيح الذي قال: روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة (لوقا 4: 18-19).
An English version can be found here - https://www.comeandsee.com/view.php?sid=1442
Bibliography
Bediako, Kwame. “What Is the Gospel?” Transformation 14, no. 1 (1997): 1–4.
Sider, Ron. “What Is the Gospel?” Transformation 16, no. 1 (1999): 31–34.
Katanacho, Yohanna. “The Christmas Dragon,” Raddix Magazine 41 (2020): no pages. Internet: http://www.radixmagazine.com/2020/12/19/the-christmas-dragon/?fbclid=IwAR08n7AQbCybKBAi-1dbX-5-6iKPVi0wIUAKnZeweFeL8u2uudCqYz2LGXA.
________________. Introduction to the Old Testament. Nazareth: Nazareth Evangelical College, 2023; Cairo: Dar El Thaqafa, 2024 (Arabic)
________________. “Ma Hu Al-Injyl?” Agsan Al-Krmt 12 (2022): 7-16. (Arabic)
Keller, Timoth. “The Gospel in All Its Forms.” CruPress (2010): internet, https://www.cru.org/content/dam/cru/legacy/2012/03/Keller-Gospel.pdf