ان الصورة المطبوعة في اذهاننا عن مشهد الميلاد الأصلي في بيت لحم وردية للغاية. فنذكر الجوق الملائكي الفخم يشدو "المجد لله في الاعالي..." ومجوس في ملابسهم الفاخرة المزركشة يقدمون الهدايا المميزة ومريم ويوسف حول سرير طفلهم الوديع.
لكن طريق ميلاد الطفل يسوع وما تبعه كان محفوفًا بالمخاطر وتميز بآلام قاسية: ضغوطات مخاطر وتهديدات ومؤامرات. وهذه كلها قلّما نذكرها حين نحتفل بالعيد اليوم.
بداية المسيرة تُدمَغ بعار شديد في قرية جليلية صغيرة يقطنها يهود متزمتين يعرفون بعضهم البعض عن قرب. فيا للويل- فتاة صغيرة مخطوبة توجد حبلى قبل ان تتزوج من خطيبها!
يرافق العار مريم وما اشدّه من عار، اذ يَطعنون بالشريفة في شرفها. نحن كشرقيين نعرف ما معنى هذا "العيب" رغم اننا في مجتمع يتحول باطراد من النمط المحافظ الى الغربي "المتحرر". اما يوسف- فلا بد ان اهل البلدة نظروا اليه باستخفاف وربما اعتبروه ابله اذ وافق ان يبقى "بحماقته" مع مثل تلك الفتاة.
لا شك ان الهمز واللمز والغمز والهمس من اهل البلد لسع واساء الى مريم ويوسف لأمد طويل وما اقساه من شعور.
تستمر المسيرة بسفر مريم على دابه الى بيت لحم للاكتتاب وهي حبلى. ومن معرفتنا بطبيعة تضاريس بلادنا، نعلم المشقة الكبيرة في ذلك- مهما كان المسار (طريق غور الاردن او السامرة او الساحل).
وبدلَ ان تجد مكانًا للراحة حيث تضع طفلها في البلد التي انحدرت منها عائلة يوسف (ويقال ان عائلتها هي ايضًا) لكن لم يوجد لهما مكان...لربما ليس بتأثير ضغط الوافدين الى بيت لحم للاكتتاب، وانما ايضًا لأجل العار الذي ما فتئ يلازمهما. ليس من المستبعد ان اخبار "فضيحة" مريم، جعلت اهل بيت لحم (وبضمنهم أقاربهم) يوصدون أبواب بيوتهم امامهم.
لذلك امتزج الاتهام بالعار بشعور جديد ليس من الهمسات والغمز فحسب وانما شعور عسير من الرفض. ولا بدّ ان علامات الاستفهام والتشكك تسللت الى قلبيهما الرقيقين. الم يكلمهما الملاك عن المولود السامي المقام، فلماذا عذاب النفس؟!
تتعرض العائلة الوديعة الشريفة مع وليدها البريء الى خبث ومؤامرة ملك قاسي غيور يسعى للقضاء على الطفل الذي اعتبره تهديدًا له. وكالعادة وبطريقة معجزيه، ينجيهم الرب من هذه الخطة الجهنمية. فيستمر مسلسل طريق الآلام في حلقة جديدة تهرب فيها العائلة من بطش هيرودس الجزّار الى مصر ليصبح الطفل يسوع وأهله لاجئين فيها. ربما سمع يوسف ومريم عن المجزرة التي ارتكبت في بيت لحم ونواح الأمهات على قتل أطفالهم في محاولة هيرودس للقضاء على ابنهم الحبيب. لقد أصبحوا الآن لاجئين في ارض الكنانة وقد حملوا وزر عار الناصرة ورفض بيت لحم وشعور الذنب على المجزرة والرعب من بطش هيرودس.
حتى بعد إتمام ايامهم في اللجوء في مصر نفث ارخيلاوس التهديد، فعادت العائلة للناصرة- موطن الأمان.
بينما نحتفل بالعيد، لنذكر طريق آلام يسوع- ليس في اسبوعه الأخير قبل الصلب فحسب وانما لنستذكر ان مشقته ابتدأت من لحظة وطأت رجله الأرض وحتى قبلها. لنقدّر ما احتمله لأجلنا.
وبينما نعيّد هذا العيد الذي يطلق الناس عليه اسم "عيد الفرح والسلام"، لنذكر انه لم يكن عيد فرح وسلام خالص بل امتزج فيه الحزن وشقاء ورفض.
يأتي العيد هذا العام في شرقنا بمشاعر مختلطة على الناس، ولم يجف دم القتلى في كثير من المناطق ويستمر القتال في أخرى. لم يُحرَر المعتقلين والمخطوفين ولا استُرِد المنكوبين ولا اعيد النازحين. حريٌّ بنا ان نعرف ان يسوع ابتدأ مسيرته نحو صليب الخلاص منذ نعومة اظفاره لذا فهو يشعر مع كل متألم ويبكي مع المحزون ... حتى في يوم عيد ميلاده.
ميلاد مجيد لإله المجد.