نحنُ واقفون على أعتابِ عامٍ جديدٍ. أمامنا فرصةٌ جديدةٌ للتفكير ولإعادة ترتيب أمورنا بطريقة أفضل وأحكم. نعم، لقد أشرقت شمسُ سنة ألفين وخمس وعشرين (2025). بدأت رحلتنا لعام جديد. فما نوع الطائرة التي سنقلع بها؟ أين سنسافر وكيف سنتحرك؟ كيف سنبدأ العام؟ هل نبدأه بحشو الطعام أشباراً فوق مستوى المعدة، أم نبدأه بالنوم والأحلام؟ هل نبدأُ بدايةً غشيمةً أم حكيمةً؟
لا شكَّ أنَّ الكتابَ المقدَّسَ مليءٌ بحكمة البدايات الجديدة. حدثَّنا النَّبيُ موسى عن البداية الجديدة لآدم وحواء قبل السقوط وخروجهما من جنة عدن وبعده، قبل زواجهما وبعده. ثمَّ سرد لنا بداية نوح الجديدة بعد الطوفان، ثمَّ بداية إبراهيم الجديدة بعد أن أنجبت زوجتُه سارة ابنهما اسـحاق، ثمَّ بداية يوسف الجديدة بعد أن جلس على عرش الحكم في مصر، وخبَّـرنا أيضا عن بداية جديدة عند الخروج من مصر. ثمَّ التقينا مع بداية جديدة زمن يشوع عند دخوله الأرض التي نحبُّ ترابها، ووجدنا بدايةَ داود الجديدة بعد موت شاول، ولا ضير من القول إنه ثمة بدايات أخرى عديدة. بعضُها حزين مثل السبي وبعضُها الآخر مفرح مثل بناء الهيكل.
ونحن كمسيحيين نفتخرُ أنَّ أعظمَ البداياتِ تتمحورُ حولَ سيدنا وربنا يسوع المسيح. هو أفضلُ بدايةٍ وأفضلُ طريقٍ وأفضلُ نهايةٍ. هو البداية والنهاية. ونشكر الله على الذين نظموا أسفار الكتاب المقدس بالتسلسل الذي بين أيدينا ووضعوا متى في بداية البدايات الجديدة إذ يشرق اصحاحُه الأوَّلُ علينا بكلماتٍ خالدة. سننظر إلى هذه الكلمات بخمس طرائق ترتبط بالعين لأننا نحتاج إلى تنوع المناظير عندما نواجه بداية جديدة. فالعين هي نقطة الانطلاق. وينتشر بيننا التعبير الشعبي القائل: نظرة فابتسامة فسلام فموعد فلقاء فخطبة فزواج.
وهنا اقتبس تعبير المغني عبد الوهاب لأقول لك ولكِ: ليتك تكون حكيم عيون تفهم بالعين. فالعين اليوم ستنظر خمس نظرات مستوحاة من إنجيل البشير متى لا سيّما الاصحاح الأول. والنظرات هي: النظر إلى الماضي أو الخلف، النظر إلى الحاضر أو حولنا، النظر إلى المستقبل أو الأمام، النظر إلى فوق، والنظر إلى أسفل. هذه النظرات مهمة لتكون البداية الجديدة بداية جيدة.
النظر إلى الخلف أو الماضي
يبدأ البشيرُ متى إنجيلَه بلائحةٍ من الأسماء ينظر فيها إلى الماضي أو إلى الخلف. عندما نقرأ لائحة الأسماء نشكرُ اللهَ أنَّ المسيح لم يُولد في الصين! يقدّم لنا البشير متى شعبَ إبراهيمَ في غرفةِ الولادة. وإن جاز التعبير، نقول إن شعبَ إبراهيم حبل مدة ثمانية عشر قرناً (1800 سنة)، وهذه أطول فترة حبلٍ عرفها التاريخ. نظّم البشير متى فترة الحبل عن طريق الكلمة "وَلَدَ" التي يذكرها تسعاً وثلاثين مرةً قبل أن يكتمل العدد بالأربعين حين يتحول الفعلُ "وَلدَ" إلى الفعل "وُلدَ" المبني للمجهول. وقسّم القديس متى سلسلة العائلة إلى ثلاثِ محطات: من إبراهيم إلى داود ومن داود إلى السَّبي ومن السَّبي إلى المسيح. تحتضن كلُّ محطةٍ أربعةَ عشرَ جيلاَ مما يجعل مجموعَ الأجيالِ اثنين وأربعين جيلاً. ربما تساعدنا هذه الأرقام أن نكتشف ملء الزمان الذي حلَّ بميلاد المسيح. فمدلول الرقم أربعين هو الاكتمال وذلك بحسب استخدام هذا العدد في كثير من نصوص الكتاب المقدس لا سيما العهد القديم. ويتكافأ العدد اثنان وأربعون مع ثلاث سنوات ونصف (42 شهر) وهي فترة توقف المطر زمن إيليا وفترة متميزة في سفر الرؤيا يرتبط انتهاؤها ببداية جديدة. والتقسيم في متى هو أربعةُ عشر جيلا مكررة ثلاث مرات. بكلمات أخرى، نتحدث عن فترة مكونة من ست سباعيات وهكذا تكون ولادة السيد المسيح السُباعية السابعة وبداية عصر الكمال. على أي حال، عندما ننظر إلى الماضي بعيون البشير متى نرى أمرين أساسيين.
أولاً، نرى ما يحرجنا في تاريخ العائلة، فهناك الزانيات والأمميات والإهانات وفشل داود والسبي وغير ذلك. نرى فشلَنا في تحقيق خطة الله. فيهوذا أخطأ مع ثامار، وداود زنى مع بثشبع، ووصل بنا الحال إلى السبي، وظهر يكنيا الذي وصفه ارميا قائلا: اكتبوا هذا الرجل عقيما، رجلا لا ينجح في أيامه، لأنه لا ينجح من نسله أحد جالسا على كرسي داود وحاكما بعد في يهوذا (ار 22: 30). من الحكمة إن ننظر إلى الماضي ونكتشف فشلنا في كثير من الأمور. فالجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. فَشِلْنا كأتباع المسيح، فشلنا في القداسة والمحبة، فشلنا في بناء علاقات تمجد الله، فشلنا ككنيسة، كعائلة، كأبناء، كطلاب، كموظفين، كقادة، وغير ذلك. ونأتي بفشلنا عند أقدام المسيح. كما فعل متى بعد لائحة طويلة. لنحضر فشلنا إلى مسيحنا.
ثانياً، ننظر إلى الخلف أو الماضي لنتذكر وعود الرب. وعد أن يباركنا وأن يكون معنا وأن يرحمنا. تعتمد هذه الوعود على هويته وشخصه وقداسته ومحبته. فرغم فشل أبناء يعقوب أو إخوة يوسف ورغم فشل يهوذا ورغم فشل داود ورغم السبي ورغم يكنيا يستطيع الله أن يخلق من العدم حياة وأن يذهل عيون البشر وأن يقيم شعوباً بأكملها من رماد التراب. فلنتذكر وعود الرب لنا ولأولادنا ولكنائسنا ولبلادنا. قال لنا: ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. قال لنا: أنا ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. تذكروا وعود الرب.
النظر إلى الحاضر
ليس الحاضرُ أفضلَ كثيراً من الماضي. فلا يزال الفاشلون يملئون تاريخ الكنيسة بصفحات مخزية أخلاقياً ولاهوتياً. لا تزال تصرفات الكثيرين محرجةً بسبب التشرذم المسيحي والانقسامات والتبريرات الواهية. لقد ظهر فشل الكنيسة في دعم العبودية في أمريكا وفي دعم الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وفي دعم محاكم التفتيش وفي دعم الحروب الصليبية وفي دعم النازية ومعاداة السامية وقتل اليهود وفي كره المسلمين وفي نشر الصهيونية وظلم الفلسطينيين ومآسي غزة والعراق وسوريا وحتى في قضايا أخلاقية مخزية ترتبط بالجنس والزواج. لكن يفشل البشر ولا يفشل المسيح. ليست البدايةُ الجديدة إعطاءَ فرصة أخرى لآدم ولنسل آدم بل خلق إنسانية جديدة من تراب آدم. يجب أن يموت آدم الأول ليُخلق آدم الثاني. يموت الإنسان الجسدي ليُخلق الإنسان السماوي. وهكذا وُلد المسيح لنولد ثانية، مات لنموت وقام لنقوم.
يقدم لنا متى كنيسة الحاضر ككنيسة منقسمة. ونجد القديس يوسف والعذراء المباركة في خلاف واختلاف. يؤمن كلاهما بالرب لكن الله تعامل مع كلٍّ منهما بطريقةٍ مختلفةٍ. فمن ناحيةٍ، حلَّ روحُ اللهِ على مريمَ العذراء. كلّمها الآبُ وسكن فيها الابنُ وحلَّ الرُّوحُ القُدسُ عليها. وظهر لها جبرائيلُ. لقد تعامل اللهُ مع مريمَ بصورةٍ استثنائيةٍ وجعلَها نموذجاً لكنيسة المستقبل حين يكون الابنُ معنا ويسكن الرُّوح فينا.
أما يوسف فكان باراً يحفظ الناموس والوصايا. كان إيمانه مستمداً من العهد القديم. لم يكن جاهزا لدخول العصر الجديد حين يخلص الأمم وتتحقق المواعيد. أراد أن يعيش بحسب المعايير القديمة. كلاهما مؤمن لكنهما اختلفا في فهم مشيئة الرب. ربما ظن يوسف أن مريم أخطأت واستغربت مريم من عدم تجاوب يوسف مع عمل الله فيها ومن خلالها لا سيما أنه متمسك بكلمة الله وطاعته. يبرز البشير متى عنصرا مفاجئا في القصة وهو تدخل الله ليغير موقف يوسف. وصلاتي أن يغيّر الله مواقف يوسف في زماننا لأن يوسف هو جزء مهم في تحقيق خطة الله للعالم. صلاتي أن يتفق أتباع إنجيل الخلاص مع أتباع الإنجيل الشمولي في التشديد على مركزية يسوع المسيح وإكرامه في كل الظروف. فنحن كمسيحيين نكون معاً أو لا نكون. نقف معاً أو نسقط في هوّة الطائفية والانقسامات حيث يفترسنا الأسد الزائر.
النظر إلى المستقبل
مفتاح عمل الله في المستقبل هو عمانوئيل. لكن مدلول عمانوئيل لا ينحصر بمعية الله معنا بل يمتد ليشمل معيتنا معاً مع الله. لا يريد الله أن يكون مع مريم فقط أو مع يوسف فقط بل معهما معاً وهما مع بعضهما بعضاً. علينا أن نسعى إلى الشركة المقدسة مع كل أتباع المسيح بطرق تجسّد المحبة والاحترام والتواضع. لا نتصرف كأننا كنيسة تجسد عقلية الفريسي وتدين الآخرين مثلما أدان الفريسي العشار.
علينا أن نتحرر من العلب اللاهوتية الضيقة جداً التي تحصر هوية الكنيسة بطائفة محددة وبلاهوت ضيق. نحن الآن في سنة الاحتفال بألف وسبعمائة عام لمجمع نيقية الذي أصدر قانون الإيمان سنة ثلاث مئة وخمس وعشرين (325 م). فلنتذكر الوحدة المسيحية مع كل الكنائس. وسنجد في السماء أشخاصاً كانوا مسيحيين صهيونيين وسنجد آخرين عاشوا مسيحيين يعارضون الصهيونية. سنجد في الخليقة الجديدة مسيحيين كاثوليك وأرثوذكس وأقباط وسنجد أيضاً مسيحيين معمدانيين وخمسينيين وغيرهم. بعض القضايا التي نختلف عليها ربما علينا أن نتعلم من إنجيل متى ونتركها لحُكم السماء، ونصب جُل اهتمامنا بخدمة عمانوئيل.
النظر إلى فوق
لا يكتفي متى بالحديث عن النظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل بل يُصرُّ على أهمية النظر إلى فوق. فملاك الرب ظهر ليوسف في حُلم وتحدثت السماء إلى العذراء. ونجد النظر إلى فوق جلياً في قصة المجوس الذين رأوا النجم. لقد انحبس الرسول يوحنا في بطمس لكنه نظر إلى فوق فانفتحت أبواب السماء عندما أُغلقت كلُّ أبواب الأرض. عندما تصبح الأمور مستحيلة ونقف أمام قبر لعازر الذي أنتن في القبر، لنتذكر أن ننظر إلى فوق كما فعل يسوع. والنظر إلى فوق قد يظهر بعدة صورٍ.
فعلى سبيل المثال، نرفع أعيننا لننظر إلى الجبال. قال كاتب المزامير: ارفع عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني (مز 121: 1). فأورشليم تحيطها الجبال كما يحيط الرب شعبه ويحميهم (مز 125: 2). نرفع أعيننا لننظر إلى الطيور. يقول السيد المسيح: انظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟ لنثق أن الله يريد أن يعتني بنا. فلا تهتموا لمشاكل سنة ألفين وخمس وعشرين (2025) بل ارفعوا أعينكم لتنظروا الطيور. ثم بعد النظر إلى الجبال والطيور ارفعوا أعينكم لتنظروا الغيوم. فيسوع المسيح الذي ارتفع سيأتي ثانية. نحن ننتظر مجيئه الثاني كما انتظرت العذارى الحكيمات. ليس هو انتظار الكسل بل انتظار الصمود أمام كل التحديات من كراهية وعنصرية. هو صمود الشجرة المتجذرة أمام الرياح. أضف إلى ذلك، ارفعوا أعينكم إلى الغيوم لتعلموا أن المطر قادم فالذي فدى البشر بدمه ألا ينقذهم من النكبات؟ الله الذي يحبنا أكثر من محبة الأم لرضيعها ألا يعتني بشعبه؟ فارفعوا أعينكم إلى السماوات كما فعل المجوس وكاتب المزامير الذي أعلمنا أن السماوات تتحدّث بمجد الله والفلك والمجرات يخبر بعمل يديه. من يدرِّب نظره على النظر إلى الأعلى سيكتشف المسيح كما حصل مع المجوس حين أوصلهم النجم ووقف فوق، حيث كان المسيح المولود. فمن المهم النظر إلى رئيس الإيمان ومكمله ربنا يسوع. لقد رفع بولس أعينه فرأى السيد المسيح بالقرب من دمشق. في مكان خوف المسيحيين وتألمهم ارتفعت أعين بولس لرؤية المسيح لأن الله يريد أن يبارك شعبه من خلال قادته لأن قاتل المسيحيين سيتحول إلى رسول الأمم. أقول مع صاحب المزمور: إليك رفعت عيني يا ساكنا في السماوات. هوذا كما أن عيون العبيد نحو أيدي سادتهم، كما أن عيني الجارية نحو يد سيدتها، هكذا عيوننا نحو الرب إلهنا حتى يترأف علينا. ارحمنا يا رب ارحمنا. (مز 123: 2-3).
النظر إلى أسفل
علينا أيضا أن نكتشف شناعة الخطيئة فنتعرف على هيرودس وأمثاله. فهم أيضا جزءٌ من قصة البداية الجديدة. ولهذا نتأمل باللاجئين الذي هربوا من أرض الأنبياء إلى أرض فرعون. ونتأمل براحيل التي تبكي على أولادها وبالأطفال الذين يموتون ظلماً. فننظر إلى أسفل ليس للتعبير عن اليأس بل للتعبير عن التوبة كما فعل العشار الذي لم يجرأ أن يرفع نظره قائلاً: اللهم ارحمني أنا الخاطئ. نعم أحبائي أن طلب التوبة هو من أجمل ما يمكن أن نفعله في البدايات الجديدة. طلب المغفرة هو أجمل ما يمكن أن نفعله في البدايات الجديدة. هكذا فعل الرسول بطرس فصار منتصب القامة يمشي وفي يده قصفةُ زيتون وفي اليد الأخرى إنجيلُ المسيح.
ننظر إلى الأسفل للتعبير عن التآخي ولنمد يد المساعدة. فقصة متى هي قصة ساكن السماء الذي نظر إلى الأسفل وجاء إلى أرضنا. ونظر إلى الأسفل فخدم المهمشين والمظلومين والشعبَ الجالس في الظلمة. ونظر إلى الأسفل ليرفع المنكوبين ويخلص المقيدين بالخطايا والخمور والمخدرات. وأقوى القديسين هم الذين صعدوا من الأسفل بنعمة الله المتواضع. ولا ننظر للأسفل نظرة التعالي بل نظرة القلب المنكسر والمصلي والخادم.
أخيراً، يا إخوتي ويا أخواتي، هل أنت حكيم عيون؟ هل ستبدأ البداية بطريقة غشيمة أم حكيمة؟ هل ستنظر إلى خطايا سنة ألفين وأربع وعشرين (2024) وتضعها على مذبح التوبة؟ هل ستتذكر وعود الرب؟ هل ستمارس الوحدة والغفران كما حصل مع يوسف ومريم؟ هل ستنظر إلى الأمام بنظرة معية الله وترفع نظرك للأعلى فترى الجبال والطيور والغيوم والسماء وحتى رئيس السماء ربنا يسوع؟ هل ستنظر إلى الأسفل لينكسر قلبك وتبكي مع الباكين وتخدم المظلومين؟ قرار البداية الحكيمة يعود لك ويبدأ بنظرة.